أولًا: مقدمة عامة
لا تزال المخيمات الفلسطينية في لبنان، منذ إنشائها في أعقاب نكبة عام
1948، ترزح تحت أعباء أزمات مركبة، تتفاقم عامًا بعد عام. وبينما كانت هذه
المخيمات ملاذًا مؤقتًا، تحوّلت مع مرور الوقت إلى بيئات مغلقة، محرومة من الحدّ
الأدنى من الحقوق الإنسانية. وقد جاءت هذه الدراسة – التي بين أيدينا – لترصد واقع
12 مخيمًا فلسطينيًا، من الشمال إلى الجنوب والبقاع، بالاستناد إلى مشاهدات
ميدانية، وشهادات حية، وبيانات رسمية من الأونروا، وتقارير منظمات أهلية.
إن هذا التقرير لا يكتفي بتوثيق الواقع، بل يسلّط الضوء على عمق
المعاناة الجماعية التي يعيشها اللاجئون، ويعيد طرح الأسئلة الكبرى حول العدالة،
والكرامة، والمسؤولية الدولية تجاه شعبٍ ما زال ينتظر سلاما عادلا يعيده لأرضه
وبيته.
ثانيًا: السمات العامة للأزمة الإنسانية في المخيمات:
1. الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي
تشير المعطيات الميدانية إلى أن معدلات الفقر تتجاوز 85% في معظم
المخيمات، فيما تبلغ البطالة مستويات غير مسبوقة، خاصة بين الشباب. ويعتمد عدد
متزايد من العائلات على الحوالات الخارجية، أو المساعدات الإغاثية، أو عمل يومي
غير منتظم. وقد خلقت هذه الأوضاع مستويات خطرة من انعدام الأمن الغذائي والركود
الاقتصادي داخل المخيمات.
2. تدهور التعليم وتفاقم التسرّب المدرسي
رغم الجهود التي تبذلها الأونروا، إلا أن النظام التعليمي داخل
المخيمات يعاني من اختلالات بنيوية، أبرزها: اكتظاظ الصفوف، وضعف البنية التحتية،
ونقص التجهيزات. وقد أدّت سياسة "الترفيع الآلي" سابقًا إلى تراجع
المستوى التحصيلي للطلاب، فيما بلغ معدل التسرب في بعض المدارس 16%. وتواجه
الروضات صعوبات في استيعاب الأطفال بسبب غياب المرافق المناسبة ووسائل التعليم
الحديثة.
3. هشاشة النظام الصحي وتراجع الخدمات
تشهد معظم المخيمات تراجعًا حادًا في خدمات الأونروا الصحية، نتيجة
تقليص التمويل. هناك نقص كبير في الأدوية المزمنة، والكوادر الطبية، والتجهيزات.
كما أن نسب تغطية الاستشفاء انخفضت إلى 60% أو أقل. هذا الواقع فاقم معاناة مرضى
السرطان، وغسيل الكلى، والأمراض المزمنة، وأدى إلى لجوء كثير من المرضى إلى ديون
أو إهمال العلاج.
4. انهيار البنى التحتية
تكاد البنى التحتية في معظم المخيمات أن تنهار بالكامل. تعاني المساكن
من الاكتظاظ، وغياب التهوية، وتسرّب مياه الأمطار، وتداخل شبكات الكهرباء والمياه.
انقطاعات الكهرباء مستمرة، ومياه الشرب في بعض المخيمات، مثل نهر البارد، باتت
مالحة وغير صالحة للاستخدام المنزلي. هذا الوضع يخلق بيئة غير صحية ويزيد من
انتشار الأمراض.
5. الغموض القانوني والتمييز المؤسسي
رغم أن لبنان يستضيف اللاجئين الفلسطينيين منذ 75 عامًا، إلا أن
قوانينه ما زالت تحرمهم من الحقوق المدنية الأساسية، وعلى رأسها الحق في العمل
والتملك. كما أن غياب وثائق قانونية واضحة للكثير من سكان المخيمات، خاصة القادمين
من سوريا أو غير المسجلين، يُعمّق الهشاشة القانونية والاجتماعية لهؤلاء.
ثالثًا: دراسات حالة مختارة
مخيم نهر البارد (الشمال)
- دُمّر
بالكامل عام 2007، وما زال 480 منزلًا غير معادٍ بناؤها حتى اليوم.
- إجراءات
أمنية معقّدة تعزل المخيم عن محيطه وتحبط النشاط الاقتصادي.
- فشل برامج
الإغاثة الدائمة وغياب العدالة في التعويضات.
مخيم البداوي (الشمال)
- تجاوزت
نسبة البطالة 85%، مع أزمة اكتظاظ حاد نتيجة استقبال نازحي البارد وسوريا.
- نظام
التعليم منهك، ومدارس الأونروا تعاني من ضعف التغطية والإمكانات.
- غياب أي
مشاريع بنية تحتية مستدامة.
مخيم شاتيلا (بيروت)
- الكثافة
السكانية الأعلى في لبنان، مع اكتظاظ غير مسبوق وتدهور بيئي.
- انتشار
ظواهر العنف المنزلي، وتراجع المستوى الصحي والمعيشي.
- غياب
الخصوصية وتفشي التلوث بسبب التوسّع العشوائي العمودي.
مخيم عين الحلوة (صيدا)
- يُعدّ
أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان من حيث عدد السكان، حيث يقطنه أكثر من
70,000 لاجئ، ويشكّل مركز ثقل سكاني وسياسي.
- رغم هذا
الحجم السكاني، يعاني المخيم من تهميش إنساني ممنهج، إذ لا توجد فيه بنى
تحتية حديثة، وتكاد خدمات الأونروا فيه لا تلبّي الحد الأدنى من الاحتياجات.
- يشهد
نقصًا حادًا في المرافق التعليمية والصحية، وارتفاعًا كبيرًا في معدلات الفقر
والبطالة، مع توسع العشوائيات العمودية، وغياب مشاريع تنموية مستدامة.
- يغيب عنه
أي تنظيم عمراني أو بيئي، وتُسجّل سنويًا معدلات مقلقة من التسرب المدرسي
والأمراض المزمنة، وسط بنية تحتية متهالكة.
- يُنظر إلى
المخيم – في الإعلام والخطاب السياسي – من زاوية أمنية حصريًا، حيث يربط
كثيرون بينه وبين ملف "السلاح الفلسطيني"، في حين يتم تجاهل أزمته
الإنسانية العميقة.
رابعًا: من زاوية حقوقية
يُبرز التقرير انتهاكات جسيمة تمسّ الحقوق الأساسية للاجئين
الفلسطينيين، وتتعارض مع التزامات لبنان الدولية بموجب اتفاقيات حقوق الإنسان،
ومنها:
- العهد
الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966): يُعد
لبنان طرفًا في هذا العهد، ما يُلزمه بضمان الحق في التعليم، والصحة، والعمل،
والسكن الملائم للجميع دون تمييز. إلا أن الواقع في المخيمات يعكس حرمانًا
ممنهجًا للاجئين الفلسطينيين من هذه الحقوق.
- اتفاقية
حقوق الطفل (1989): باعتبار
لبنان دولة مصادقة، يترتّب عليه التزام قانوني بتأمين بيئة تعليمية وصحية
آمنة لكل طفل على أراضيه، بمن فيهم أطفال اللاجئين، لكن التقرير يُظهر فجوات
خطيرة في تطبيق هذا الالتزام في المخيمات.
- مبدأ عدم
التمييز في القانون الدولي لحقوق الإنسان: تُعدّ
الممارسات القانونية والإدارية التي تحدّ من فرص الفلسطينيين في العمل
والتملك والخدمات، شكلاً من أشكال التمييز غير المبرر، ما يتعارض مع التزامات
لبنان بموجب الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها.
كما يسلّط التقرير الضوء على إخفاق وكالة الأونروا في الحفاظ على الحد
الأدنى من شبكات الحماية الاجتماعية، لا سيما بعد إلغاء برامج الطوارئ وتبنّي
سياسات شطب تعسفية للعائلات من برامج الدعم، وهو ما زاد من هشاشة الوضع الإنساني
داخل المخيمات.
سادسًا: تقييم أداء الأونروا في إدارة شؤون المخيمات
رغم أن وكالة الأونروا تُعدّ الجهة الدولية الوحيدة المخوّلة بتقديم
الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، إلا أن أدائها في السنوات الأخيرة
يشهد تراجعًا مقلقًا على عدة مستويات، ويُمكن تلخيص التقييم كما يلي:
1. تراجع الاستجابة في القطاعات الحيوية
- الصحة: تقليص
مستوى التغطية في الطبابة إلى 60% و90% بعد أن كانت 100%، مع نقص الأدوية
الحيوية، لا سيما في الأمراض المزمنة.
- التعليم: استمرار
نظام الفترتين، غياب التطوير التربوي، الاكتظاظ الشديد، وغياب برامج فعالة
للحد من التسرب.
- الإغاثة: إلغاء
برامج الطوارئ تدريجيًا، وتخفيض المساعدات المالية، بما فيها بدل الإيجار
والغذاء.
2. ضعف المشاركة المجتمعية
- عدم إشراك
المجتمع المحلي في اتخاذ القرارات أو وضع أولويات المشاريع، مما خلق فجوة بين
الوكالة واللاجئين، وشعورًا عامًّا بالتهميش واللامبالاة.
3. البيروقراطية والتأخير
- تميّزت
إجراءات الأونروا في ملفات الإعمار، كما في نهر البارد، بالبطء الشديد، وكثرة
الشروط البيروقراطية، وتأخير تنفيذ المشاريع رغم وجود التمويل أحيانًا.
4. سياسات الشطب والاستهداف
- شهدت
السنوات الأخيرة شطب عدد من العائلات من برامج الدعم الاجتماعي، دون تحقيق
شفاف أو معايير واضحة، ما أثار اتهامات بوجود معايير مزدوجة وتمييز بين
العائلات.
5. إدارة الأزمات: غياب الاستراتيجية المستدامة
- لم تضع
الأونروا حتى اليوم خطة طوارئ متكاملة تعالج تبعات الانهيار الاقتصادي
اللبناني على اللاجئين، أو أزمة النزوح من سوريا، أو أزمة الكهرباء والمياه،
مكتفية بردود فعل موضعية ومحدودة.
خامسًا: التوصيات
إلى الدولة اللبنانية:
- رفع
القيود المفروضة على حق اللاجئين في العمل والتملك، ووقف سياسات الإقصاء
القانوني.
- إدراج
المخيمات ضمن الخطط التنموية والصحية الطارئة.
إلى وكالة الأونروا:
- التراجع
عن تقليص الخدمات والعودة إلى تقديم دعم إنساني فعّال ومتوازن.
- وضع خطة
طوارئ تعليمية وصحية عاجلة في شمال لبنان وبيروت.
إلى المجتمع الدولي:
- إطلاق خطة
تمويل مستدام للأونروا، بعيدًا عن الابتزاز السياسي.
- تشكيل
آلية رقابة مستقلة لمتابعة التزامات الوكالة والمجتمع المضيف.
- تعزيز
برامج التمكين الاقتصادي للشباب والنساء.
خاتمة إنسانية
إن اللاجئ الفلسطيني في لبنان لا يطلب امتيازًا، بل الحد الأدنى من
الحق في الحياة الكريمة، والعيش بكرامة حتى حين. إن استمرار تجاهل هذه المعاناة
يعمّق الإحباط، ويُمهّد لانفجارات اجتماعية مستقبلية. المخيمات اليوم هي شاهد حي
على فشل الإرادة الدولية في إنهاء معاناة شعب اقتلع من أرضه، ويُراد له أن يقتلع
من ذاكرته وكرامته.
المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) إذ تضع هذا التقرير بين يدي
الجهات الدولية والإعلامية والرأي العام، تدعو إلى:
"حوار
دولي جاد يُنهي عصر الإغاثة المؤقتة، ويبدأ مسارًا جديدًا للكرامة الدائمة.
لقراءة التقرير