في قلب المخيمات ظاهرة تستحق الإحترام |
المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) - الخميس 19 كانون الثاني 2006 |
ظاهرة تستحق الاحترام توصف المخيمات الفلسطينية في اراضي الشتات عامة وفي لبنان خاصة بأنها بيئة اجتماعية معقدة، متداخلة متفاعلة بشكل كبير. ولعل لذلك عدة اسباب اهمها، ان سكان المخيمات هم في الحقيقة ابناء قرى وبلدات والعامل الاجتماعي في القرية اشد منه من المدينة. ثم هناك سبب اخر يتعلق بأن مساحة المخيم هي ذاتها منذ تأسيس المخيم وليومنا هذا في حين ازداد عدد السكان عدة اضعاف، مما يعني ان المساكن سوف تكون قريبة جدا "والزواريب" سوف تضيق، وغير ذلك.. السبب الثالث هو ان المعاناة تكاد تكون واحدة بالنسبة لكل الفلسطينيين، من تشريد وبعد، الى طول فترة اللجوء وغير ذلك.. ان الظروف الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون في المخيمات لو اخذت بتجرد لكانت كافية لأن تفتت المجتمع وتجعله مشتتا يسير على غير هدى.
بيد ان الحالة الفلسطينية مستعصية جدا على هذا الامر، ومرور السنين لم يخترق بعد جوهر الانسان الفلسطنيي وطيبة قلبه ورجاحة عقله. ومما يلفت الانتباه بالنسبة للباحثين الاجتماعيين هو ان هناك ظاهرة اجتماعية مهمة تتمثل في حالات المواساة والفرح على حد سواء. فالمخيمات الفلسطينية والتي تعتبر خزان اجتماعي ومختبر هام لقياس العادات والتقاليد وانتقالها ومدى تأثيرها من والى.. لا زالت تحتفظ لنفسها ميزة لم تتوفر لغيرها من البيئات والتجمعات السكنية. عند حدوث حالة وفاة، يرى الباحث الاجتماعي ان هناك قدرة هائلة على المواساة، لأهل الفقيد..ومؤشرات ذلك تبدو من خلال:
اولا: تدفق الناس الى منزل اهل الفقيد خلال ثلاثة ايام متتالية، وبعدها لمن يسعفه وقته.
ثانيا: اذا كانت هناك اختلافات سياسية او اجتماعية او عائلية تراها تنتهي مباشرة او تختفي لحين انتهاء المحنة.
ثالثا: يقدم العديد من الناس مساعدات عينية: الدعوة الى غداء او عشاء، تقديم شادر تقديم كراسي، قهوة، تمر، وغيرها من مستلزمات العزاء.
رابعا: تبدأ هذه المواساة قبل كل ذلك من خلال الصلاة على الميت والسير بجنازته، ويحرص الناس على ذلك بشكل كبير، كما يتعاونون بشكل ملحوظ في طمر التراب فوق القبر.
خامسا: ينبري احد رجالات الدين عند تقديمه المواساة الى التذكير بمآثر الميت، والدعاء له وللحاضرين،...
سادسا: توضع على بلاطة القبر: ولد سنة كذا، توفي سنة كذا، قريته في فلسطين كذا،
سابعا: وعند اليوم الثالث يجتمع الناس جميعا من كل حدب وصوب، اهل المخيم، واصدقاء الميت، واقاربه يأتون من بعيد ليقدموا واجب العزاء والمواساة.
ان هذه الظاهرة الاجتماعية تستحق كل احترام وتقدير ويجب العمل على استمرارها واستغلالها للخير العام. ويعتبر الناس هذا الامر واجبا بالدرجة الاولى، ثم هو ديْن بالدرجة الثانية. وربما تنفرد المخيمات عن غيرها بهذا الظاهرة بهذا الوصف .
الامر الآخر وهو اجتماعي لكن ذو علاقات بالمفردات السياسية. يعرف سكان المخيمات بالوعي السياسي خاصة ذاك المتعلق بالصراع مع اسباب لجوئهم والمتسبب بذلك، لان اللاجئين هم المتضررون الاكثر من غيرهم، فهم لاجئون بعيدون عن ارضهم وقراهم. ومؤشرات هذا الوعي انه عند المحن الكبرى التي تعصف بالمخيمات منذ نشأتها وليومنا هذا وسواء كان في الاراضي الفلسطيني المحتلة او في اراضي الشتات، فإن سكان المخيمات اكثر الفلسطينيين حيوية ونشاطا. وهم خزان العطاء الاول. وهم اول من يثور ويتحرك ضد اي شأن له علاقة بما سبق. تكفي الاشارة فقط الى ان الانتفاضة الاولى انطلقت من مخيم، وان رجال المخيمات هم اول من تصدى للاحتلال الاسرائيلي، او قضية اللاجئين التي لم تمت لغاية الان على الرغم من السنين الصعبة والقاسية منذ العام 1948 لغاية الان..
ان الوعي السياسي وميزات التضحية والفداء لدى سكان المخيمات تعتبر من اهم المزايا. وقد يسأل سائل ما هي مؤشرات هذا الوعي في جزئية اللجوء الى لبنان وليس ما كان مرتبطا بالقضية الفلسطينية عموما. ان المحنة التي يعيشها ابناء المخيمات تجعل المرء عاجزا فعلا عن ادراك كنه وحقيقة هذا المعاناة وعلاقاتها الإيجابية او السلبية بقضية اللجوء. لكن اهم مؤشر في هذا المجال هو ان المخيمات لا زالت تحتفظ بمواصفاتها وديناميتها. وانها قادرة عند اي امتحان يتعلق بقضيتها ان تتجاوزه بنجاح حسب ما هو متوقع. ولعل مرور هذه السنين كافية ومؤشر حقيقي على صحة هذا الادعاء.
ما يمكن قوله هنا باختصار هو ان سكان المخيمات وعلى الرغم من الظروف الانسانية الصعبة التي يعيشونها هنا في لبنان، الا ان البنية الاجتماعية ما زالت قوية وعناصر هذه القوة تتركز حول القضية الفلسطينية وقضية اللجوء بشكل خاص. واذ ما كان هناك من ثغرات في البنية الاجتماعية، فإنها لم تصل الى الصميم، ولم تطل الجوهر بعد. والعمل يجب ان يتركز دائما حول بناء اجتماعي اكثر قوة ورصانة. ولعل اهم الدوافع لهذه البنية الاجتماعية الصحيحة هو الدين الذي يحث على الاخلاق والحب والتآخي والتكافل الاجتماعي، بعد ذلك يأتي الوعي السياسي الذي يتمحور حول القضية الفلسطينية العادلة وقضايا المظلومين في العالم العربي والاسلامي والعمل على رفع الظلم عنهم. وما يتوج هذا وذاك هو رفع المستوى التعليمي الى اقصى درجاته وبأقصى قوة ممكنة..