المسار القضائي لوقف الحرب على غزة
هل تنجح
محكمة العدل الدولية بما عجزت عنه المساعي السياسية والدبلوماسية؟
تقرير حقوقي
بيروت 11/1/2024
منذ بداية العدوان على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول ٢٠٢٣ انتهجت
قوات الاحتلال الإسرائيلي سياسة ممنهجة للفتك بأهالي القطاع عبر سياسة الإبادة
الممنهجة للسكان والتهجير القسري للسكان والقضاء على البنى التحتية الاساسية وفرض
الحصار المطبق وقطع الإمدادات الأساسية للبقاء عن السكان.
وقد راح ضحية المجازر المتكررة ما يتجاوز ٢٢٨٣٥ فلسطينياً من سكان القطاع ونزوح أكثر من
١.٩ مليون شخص من منازلهم جراء
تدمير أكثر من ٦٥٠٠٠ وحدة سكنية.[1]
في 29 من كانون أول 2023، تقدمت جنوب أفريقيا بطلب لإقامة دعوى
ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، فيما يتعلق بانتهاكات إسرائيل لالتزاماتها
بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وتعقد المحكمة أولى جلسات الاستماع في ١١ و ١٢ من كانون
الثاني ٢٠٢٤.
يعالج هذا التقرير طلب مقاضاة
إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية وما هي النتائج المتوقعة لها ويبحث في أثر هذه
الدعوى على مستقبل المحاكمات الدولية والعدالة الدولية.
أولاً: محكمة العدل الدولية
واتفاقية الإبادة الجماعية
محكمة
العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي التي أنشأها ميثاق الأمم المتحدة في ٢٦
من حزيران ١٩٤٥ لتتولى مسؤولية حل النزاعات الدولية حفاظًا على السلم والأمن
الدوليين. [2] وتعدّ الهيئة
القضائية الدولية الوحيدة ذات الطابع العالمي المختصة بالنظر في النزاعات الحاصلة
بين الدول. وقد نص ميثاق الأمم المتحدة على أن جميع
أعضاء الأمم المتحدة يشكلون بحكم الواقع "ipsofacto” وعضويتهم في الأمم المتحدة أعضاءً
في نظامها الأساسي. [3]
تتألف
المحكمة من ١٥ قاضيًا تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لولايةٍ
مدتها ٩ سنوات، وغالبًا ما يعكسون التمثيل الجغرافي العادل للدول الأعضاء في الأمم
المتحدة. وقد
أجاز النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية في المادة ٣١ منه لكلٍّ من الدول الخصوم
اختيار قاضٍ على النحو المنصوص عليه في الفقرة 2من هذه المادة، في
حال لم تضم المحكمة قاضياً من جنسية الخصوم.
تتولى
المحكمة الفصل في النزاعات المعروضة عليها طبقا لأحكام القانون الدولي في النزاعات
القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي
قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
ويشمل اختصاص المحكمة أيضًا جميع القضايا التي يحيلها الأطراف
إليها وجميع المسائل المنصوص عليها بشكل خاص في ميثاق الأمم المتحدة أو في
المعاهدات والاتفاقيات النافذة؛ إلى جانب تفسير المعاهدات وسائر مسائل القانون
الدولي ولاسيما خرق الالتزامات الدولية.[4]
أقرت الأمم المتحدة اتفاقية منع الإبادة الجماعية عام 1948 -
السند القانوني للدعوى-عقب الجهود
اليهودية الرامية الى محاكمة قادة الرايخ الألماني إبان الحرب العالمية الثانية.
وتكمن أهمية هذه الاتفاقية، إلى جانب دلالتها القانونية غير المسبوقة على جريمة
الابادة الجماعية وتبيان وصفها وعناصرها الجرمية، تحييدًا لمرتكبي الابادة
الجماعية عن أي حصانة من شأنها أن تعيق ملاحقتهم وعدم خضوع هذه الجريمة للتقادم.
واللافت بشأنها هو ما كرّسه الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية والذي اعتبر أن
أحكام هذه الاتفاقية تسري، وعلى سبيل الحصر،على جميع الدول وإن لم تصادق عليها.[5] وما يكسب أحكام هذه الاتفاقية على وجه الخصوص
قيمة مضافة هو ما جاء به تقرير الأمين العام للأمم المتحدة من اعتبار هذه
الاتفاقية جزءً من القانون الدولي العرفي.[6]
وفي هذا الصدد تقدمت جنوب أفريقيا في الـ29 من كانون الأول
2023 بطلب لإقامة دعوى قضائية ضد محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات إسرائيل
لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.[7] ومبنى هذه
الدعوى هو أن جنوب أفريقيا تعتزم مقاضاة إسرائيل لانتهاكها للالتزامات التي تفرضها
عليها اتفاقية منع الابادة الجماعية والتي يعدّ جانبا الدعوى طرفين فيها.[8] وفي الحادي
عشر من الشهر الحالي ستمثُل إسرائيل وللمرة الأولى أمام محكمة العدل الدولية تليها
جلسة استماع ثانية في 12 من الشهر نفسه.
تعتزم اسرائيل إرسال القاضي السابق في المحكمة العليا
الإسرائيلية أهارون باراك للمشاركة في جلسة الاستماع أمام المحكمة.[9]
ثانياً: مصير الدعوى ونتائجها
اتهمت جنوب إفريقيا في طلبها
إسرائيل بانتهاك موجباتها القانونية بموجب
اتفاقية الإبادة الجماعية. مشيرةً إلى أن "الأفعال والتقصير من
جانب إسرائيل تتسم بطابع الإبادة الجماعية، لأنها تُرتَكب بقصد محدد مطلوب هو
تدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من المجموعة الوطنية والعنصرية والإثنية الفلسطينية
الأوسع"، وأن "سلوك إسرائيل -من خلال
أجهزة الدولة التابعة لها، ومسؤولي الدولة، وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل
بناءً على تعليماتها أو تحت إشرافها و نفوذها وسيطرتها– فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة، يعد انتهاكًا لالتزاماتها
بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية”.
وأشارت جنوب إفريقيا في طلبها
إلى أن "إسرائيل، منذ 7أكتوبر 2023 على وجه الخصوص، فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في
مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية" وأن "إسرائيل انخرطت، وتنخرط، وتخاطر
بالمزيد من الانخراط في الإبادة الجماعية في أعمالها ضد الشعب الفلسطيني في غزة”.
وتسعى جنوب أفريقيا إلى تأسيس اختصاص المحكمة على الفقرة 1 من المادة 36 من النظام الأساسي للمحكمة وعلى
المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تُعدّ كلٌّ من جنوب أفريقيا
وإسرائيل طرفًا فيها.
وافقت إسرائيل على المثول أمام المحكمة وحضور جلسات الاستماع، وذلك
لما للسند القانوني للدعوى (اتفاقية منع
الإبادة الجماعية) من ارتباط وثيق
بالإرث اليهودي الذي تنادي به عاليًا وأنه "عانى أهوال الابادة والتطهير العرقي النازي".
تضمَّن الطلب أيضًا طلبًا للإشارة إلى التدابير المؤقتة
عملاً بالمادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة
والمواد 73 و74 و75 من لائحة المحكمة. [10] وقد طالبت الجهة المدعية بهذه الإشارة إلى
التدابير المؤقتة من أجل "الحماية من أي ضرر إضافي وشديد
وغير قابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية" و"ضمان امتثال إسرائيل
لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في أي أعمال إبادة
جماعية ومنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" وفقًا لما أورده الطلب.
كما وتمسكت بالعمل بالمادة 74 من لائحة المحكمة، بأن يكون لطلب الإشارة إلى التدابير
المؤقتة الأولوية على جميع القضايا الأخرى.[11]
ثالثاً: ما هي التدابير المؤقتة:
إن التدابير المؤقتة هي نوع من الأوامر المؤقتة التي تصدرها
المحكمة بغرض تجميد تطوّر الأوضاع الراهنة موضوع الدعوى وإلى أن تتخذ المحكمة
قرارها النهائي في النزاع المعروض أمامها. ويجوز لمحكمة العدل الدولية تطبيق
تدابير حماية مؤقتة بناء على طلب عضو طرف أو بمبادرة منها، إذا اعتبرت أن الحقوق،
التي هي موضوع القرار المرتقب، تتعرض لتهديد وشيك. وبالتالي يكون لمثل هذا الطلب
الأسبقية على جميع المسائل الأخرى المطروحة، ويتعيّن على المحكمة عقد جلسة استماع
على الفور لإصدار حكم بشأن مثل هذا الطلب.
تعوّل جنوب إفريقيا على استصدار هذه التدابير[12] في محاولة لإنهاء أو على الأقل وقف الأعمال العسكرية التي تقوم
بها سلطات الاحتلال في قطاع غزة في أقرب وقت ممكن والسماح بعودة النازحين قسرًا
وادخال المساعدات الإنسانية الى القطاع وتفادي التصعيد المتنامي للانتهاكات ما
يلحق بالسكان أضرارًا لا يمكن إصلاحها.
ما تخشاه إسرائيل اليوم هو صدور أمر بوقف إطلاق النار ويتوقع أن تعتزم على التذرع بحقها في الدفاع عن
النفس وعدم وجود أي ضمانات للتهديد الذي تشكله فصائل المقاومة الفلسطينية لأمنها.
بعد البت بطلب
التدابير الاحترازية، فإن المحاكمة ستجري بشأن القضية المقدمة والتي عادةً ما
تستمر لأكثر من ١٢ شهرًا لحين إصدار حكم نهائي بالدعوى.
ما يقلق سلطات
الاحتلال هو الاتهامات والأدلة المؤكدة والتي سيكون من الصعب وحتى شبه المستحيل
طمسها والتي تثبت ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والتحريض عليها ومنعها. والتي
تشكل تصريحات القادة العسكريين والمسؤولين الاسرائيليين- وبينهم وزراء- أدلة دامغة
على تحقق الركن المعنوي/العقلي للجريمة.
على الرغم من القيمة المعنوية للقرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية والتي تمثل نصوصًا نهائية
وغير قابلة للاستئناف[13]، فإن المحكمة لا تملك الوسائل الجبرية لإنفاذ أحكامها. إذ تُعهَد هذه المسؤولية، بموجب المادة ٩٤
من ميثاق الأمم المتحدة، إلى كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة بالامتثال إلى حكم محكمة
العدل الدولية في أية قضية يكون طرفاً فيها. وكرّست المادة عينها لأي طرف في
الدعوى اللجوء إلى مجلس الأمن إذا امتنع
أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة.
وفي هذا الصدد، فإن منح الصيغة التنفيذية للأحكام الصادرة
عنها ومهما كان حجمها تغدو رهنًا للارادة السياسية للدول الأعضاء في مجلس الأمن
والتوازنات الدولية الطاغية.
رابعاً: التعاون الدولي عبر المسار
القضائي
أمام دول العالم فرصة تاريخية للسعي نحو تحقيق شيءٍ من العدالة وإيقاف
المجازر المستمرة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. والذي يمكن تحقيقه من خلال خطوات عملية من شأنها تعزيز الدعوى المقدمة
وضمان عدم ذهاب المساعي المبذولة هدرًا وذلك خلالالمضي في الدعوى وبعد صدور الحكم النهائي.
إن بإمكان أي دولة أخرى أن تنضم إلى مساعي جنوب إفريقيا عبر مسارين
قانونيين، إما بالتقدم بدعاوى منفصلة أمام محكمة العدل الدولية،[14] أو عبر التقدم بطلب للاشتراك في الدعوى. وذلك كترجمة لمواقفها السياسية باستنكار جريمة الابادة التي يتعرض لها
أهالي القطاع ودعم هذه الدعوى المقدمة، عبر إجراءات قضائية عملية.
إن نفاذ القرار الذي قد يصدر
عن المحكمة والذي من الطبيعي جدا أن تمتنع إسرائيل عن الامتثال إليه (نظرًا لما
يظهره سجلها الحافل)، يحتاج الى إرادة دولية تضع صيغتها التنفيذية مجلس الأمن.
ويمكن لهذا الأخير إصدار قرارات ملزمة
وفرض عقوبات قد تصل إلى حد القيام بعمليات عسكرية لحفظ السلم والأمن الدوليين[15]والذي هو أمر مستبعد أثبته فشل الوصول الى أي حلّ للحرب على غزة حتى الآن نظرًا
لحق النقض الفيتو. هذا ويمكن أيضًا، اذا ما توفرت الإرادة الدولية الكافية أن
تتولى ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة سندًا للقرار رقم ٣٧٧ "متحدون من أجل
السلام".
خامساً: أثر هذه الدعوى على مستقبل
المحاكمات الدولية والعدالة الدولية
إن صدور أي قرار عن محكمة العدل الدولية بارتكاب إسرائيل
جرائم إبادة جماعية من شأنه أن يطمس السردية الاسرائيلية ويزعزع صورتها أمام الرأي
العام العالمي بشكل لا يمكن استدراكه بأن يتم وضعها في الخانة نفسها مع دول شبه
معزولة عن المجتمع الدولي لاعتبارات أخلاقية -وهو ما يخشاه المسؤولون
الإسرائيليون. كما إن عدم امتثال اسرائيل لقرار صادر عن المحكمة الأممية من شأنه
أن يشكل عامل ضغط ومصدرًا للحرج السياسي لدى حلفائها من الدول
"الديمقراطية" الأعضاء في المحكمة ولاسيما الولايات المتحدة الاميريكية.
وإن من شأن مثل هذا القرار أن يشكل أساسًا لاتخاذ خطوات
قانونية من قبل المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية ضد كبار المسؤولين
الإسرائيليين.
وفي هذا الإطار نؤكد على أن النظام القضائي الدولي الحالي
يرزح تحت تحدٍّ مفصلي يشكل فارقًا في تاريخ العدالة الدولية ويضع فعالية النظام
العالمي على المحك. وإن فشل المحكمة في وضع حد لأكثر الجرائم وحشية يشهدها العصر
الحديث من شأنه الكشف بصورة علنية عن فشل منظومة الأمم المتحدة وأجهزتها في مهمتها
الأساسية في صون السلم والأمن الدوليين وحماية حقوق الإنسان.
سادساً: التوصيات:
تثني المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)على موقف جنوب إفريقيا، كما وتؤكد
على ما يلي:
-إن
انضمام الدول المؤمنة بالعدالة والقيم الانسانية إلى الدعوى المقدمة من شأنه تكريس
موقف موحد للوصول إلى العدالة ووقف
العدوان.
-لابد
من بلورة المواقف السياسية للدول المستنكرة للابادة الجماعية عبر مواقف قضائية ضد
سلطات الاحتلال وعلى رأسها الدول العربية.
-إن
الدعوى المقدمة لا تحول من التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الأفراد
المسؤولين عن التحريض وارتكاب المجازر من قبل المسؤولين الإسرائيليين.
-أهمية
الضغط السياسي والشعبي للإسراع في إجراءات المحاكمة واستصدار الحكم في التدابير المؤقتة على الحكومات لفرض
عقوبات على الاحتلال والتأثير على قرارات مجلس الأمن .
-الدفع
نحو إنفاذ القرارات التي ستصدر عن المحكمة عبر أجهزة الأمم المتحدة.
المؤسسة
الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)
[1] United Nations Office for the Coordination of
Humanitarian Affairs, last visited on10 Jan 2024
[2]المادة 1 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية
[3]المادة ٩٣ من ميثاق الأمم المتحدة
[4]المادة ٣٦ من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية
[6] Report of the Secretary General Pursuant to
Paragraph 2 of Security Council Resolution 808, 3 May 1993, UN S/2570
[8]صادقت إسرائيل في٩ شباط ١٩٥٠ على اتفاقية منع الإبادة الجماعية وكذلك جنوب أفريقيا
في ١٠ كانون الأول ١٩٩٨ وهي أولى نصوص القانون الدولي التي قنَّنَت جريمة الإبادة
الجماعية وتم اعتمادها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع من كانون
الاول عام ١٩٤٨
[11] See, the Application by the Republic of South Africa instituting proceedings against Israel
requesting for the indication of provisional measures
[12]عادة ما تصدر التدابير المؤقتة عن المحكمة في غضون أيام أو أسابيع قليلة.
[13]المادة ٦٠ من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية
[14]نظرًا للتلازم بين الدعوى المقدمة المقدمة واي دعوى أخرى تتحقق فيها وحدة عناصرها
فان المحكمة ستعمد على الاغلب على اي حال الى ضم الدعاوى.
[15] عملًا بأحكام المادة 42من ميثاق الأمم المتحدة