منظومة القضاء العسكري الإسرائيلي أداة للقمع والسيطرة
استخدمت سلطات الاحتلال، ومنذ بداية الاحتلال عام (1967)، الجهاز القضائي العسكري ونظام الأوامر العسكرية كأداة تنفيذية لبسط الهيمنة والسيطرة على الشعب الفلسطيني، وقننت القمع وسوغته بلغة قانونية تبدو شرعية وتحترم على الأقل المعايير القانونية لدولة الاحتلال. وعلى مدار أكثر من 53 عاماً بُنيَّ جهاز قضائي عنصري تمييزي حافظ على مصالح دولة الاحتلال وأمنها على حساب مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال، بصورة مخالفة لصلاحيات ومسؤوليات دولة الاحتلال بموجب القانون الدولي الإنساني فيما يتعلق بعملية التشريع والقضاء.
إن المادة (43) من اتفاقية لاهاي لعام 1907، والمادتين (64) و(66) من اتفاقية جنيف الرابعة تعطي الصلاحية للاحتلال بإصدار التشريعات، لكنها تفرض عليه شروطاً في ذات الوقت، بحيث تُبقي القوانين المعمول بها في الأرض المحتلة وجهاز القضاء سارية، وأي تشريع جديد يجب أن يكون بهدف ايفاء سلطة الاحتلال بالتزاماتها تجاه السكان المدنيين بموجب القانون الدولي الإنساني، ومشروطة بوجوب تغليب مصالح السكان المدنيين، أما المحاكم العسكرية فيجب ألا تكون سياسية، ولغرض محاكمة أخطر المخالفات بحق قوات الاحتلال.
خرقت دولة الاحتلال كافة المعايير والشروط التي فرضها القانون الدولي الإنساني طوال هذه العقود، وقامت بتشريع أكثر من (1800) أمر عسكري طالت كافة جوانب الحياة اليومية للفلسطينيين، وجرمت كافة أشكال العمل السياسي والنقابي، وكل ما قد يُعتبر معارضاً للاحتلال وسياساته. وبدورها، أعطت المحاكم العسكرية صلاحية جغرافية خارج حدود الأرض المحتلة، فكل من يقوم بعمل يمس بأمن جيش الاحتلال في الأرض المحتلة أو دولة الاحتلال، حتى لو كان نشاطه في قارة أخرى، يُحاكم أمام المحاكم العسكرية. كما أبقت على صلاحية هذه المحاكم في المناطق التي تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية - ما يعرف بمناطق (أ) - بموجب اتفاق أوسلو، وهذا يعكس نوايا دولة الاحتلال بأنها لم تتعامل أبداً مع الاحتلال على أنه وضع مؤقت.
لا يتسع المجال في هذه الورقة لقراءة معمقة في كافة جوانب عمل جهاز القضاء العسكري وطبيعة الأوامر العسكرية، ولكن من خلال العمل اليومي في الدفاع عن المعتقلين السياسيين الفلسطينيين في سجون الاحتلال، يمكن القول أن كل تطور على إجراءات المحاكمات أمام المحاكم العسكرية أو أي تعديل للأوامر العسكرية، وإن بدى ظاهرياً بأنه جاء لينسجم مع التطورات الطبيعية لأي مجتمع، والتي تفرض تطوير جهازه القضائي وتشريعاته، إلا أنها في الحقيقة جاءت لتخدم مصالح دولة الاحتلال، خاصة وأن غالبية هذه التعديلات استندت لمعايير القانون الجنائي وقانون الإجراءات الجزائية داخل دولة الاحتلال بصورة تمييزية، أي أتت بالمعايير التي تتضمن ما يفرض مزيداً من القمع والسيطرة، وتركت ما قد يخدم مصلحة السكان الفلسطينيين.
آخر تلك التعديلات على الأوامر العسكرية هو تعديل رقم (67) للأمر العسكري (1651) والمسمى "الأمر بشأن تعليمات الأمن" - "صيغة موحدة" - "يهودا والسامرة " (2009)، والذي يحمل رقم (1827). جاء هذا التعديل ليضيف على الأمر العسكري الأساسي بشأن إجراءات المحاكمات وتعريف الجرائم، ما ورد في قانون الإرهاب الذي أُقر في دولة الاحتلال في العام (2016)، خاصة فيما يتعلق بتعريف "مادة ضارة"، "سلاح ناري"، "أسلحة"، و"سلاح كيميائي بيولوجي واشعاعي" ... وغيرها.
الأهم هو ما ورد حول تعريف الممتلكات بشكل عام، والممتلكات التي لها علاقة في تنفيذ مخالفة، وممتلكات الإرهاب، ومفهوم العمل بهذه الممتلكات، إذ شملت هذه التعريفات الممتلكات المنقولة وغير المنقولة، وكافة الحقوق في هذه الممتلكات وما ينتج عن هذه الممتلكات من أرباح. كما جاء تعريف العمل بالممتلكات بشكل فضفاض ليشمل كل من منح وتلقى لاستثمار وحيازة وتحويل وغيرها.
أما فيما يتعلق بتعريف "ممتلكات الإرهاب"، فجاءت لتشمل أوسع قدر ممكن من الاحتمالات، فهي بالدرجة الأولى ممتلكات أي منظمة "غير مشروعة"، وعند تحديد ماهية المنظمة "غير المشروعة"، يُستخدم التعريف الواسع الذي ادرجته أنظمة الطوارئ البريطانية لعام (1945)، وتحديداً المادة (84) منها. ولا تقتصر هذه الممتلكات على ما تسيطر عليه المنظمة بشكل فعلي، بل تطال الممتلكات التي تم تحويلها لآخرين أو بالشراكة مع أخرين.
أما الشق الثاني من تعريف "ممتلكات الإرهاب" فينطبق على كل غرض كان ذو صلة بارتكاب مخالفة بموجب المادة (251) من الأمر العسكري (1651)، فيما يتعلق بالتحريض أو دعم منظمة معادية، أو أيٍ من المخالفات الواردة في الإضافة الأولى للأمر العسكري (1651). وهذا يشمل قائمة طويلة من الأفعال التي جرمتها قوات الاحتلال من عمل سياسي وانتماء لأي حزب سياسي فلسطيني، وصولاً لإلقاء الحجارة، وصُبغت هذه الأفعال جميعها بصبغة الإرهاب.
جاء استبدال المادة (60) من الأمر العسكري (1651) والتي تحدثت عن وضع اليد على أي بضائع أو أغراض أو شهادات أو حتى حيوانات تم استخدامها في تنفيذ مخالفة لهذا الأمر، أو منحت كمكافأة لتنفيذ مخالفة أو لتسهيل تنفيذ مخالفة. وجاءت المادة (60) من تعديل (المادة 6 من الأمر 1827)، لتضيف إلى ما ذُكر ممتلكات تابعة لمنظمة غير مشروعة. وتضيف المادة أنه يحق وضع اليد على أي بضائع تساوي في قيمتها قيمة البضائع التي توجب وضع اليد عليها، أو إذا كانت البضائع التي يجب وضع اليد عليها أموالاً، فيمكن السيطرة على أي مال آخر يملكه أو بحوزته أو بسيطرته أو في حسابه البنكي، والمقصود هنا حسابات الأفراد أو المنظمات.
يضيف الأمر (1827) مواداً جديدة تتعلق بالعقوبات التي ستُفرض على من يقوم باستخدام ممتلكات بهدف تنفيذ مخالفة أو المكافأة على تنفيذ مخالفة، وذلك بالسجن عشر سنوات وفرض غرامة مالية، وحتى لو كان متلقي هذه المكافأة شخص لم يُنفذ، أو لم ينوِ تنفيذ المخالفة نفسها. كما يفرض الأمر عقوبة بالسجن سبع سنوات لمن لم يقصد استخدام الممتلكات بهدف تنفيذ مخالفة، ولكنه كان على دراية أن هناك احتمال أنه قد تُنفذ مخالفة. وتكون عقوبته بالسجن سبع سنوات إذا قام بأي عمل بممتلكات تابعة لمنظمة "غير شرعية" أو نقل ممتلكات لمنظمة "غير شرعية".
كما تمت إضافة عقوبة السجن خمس سنوات لمن يقوم بالتحضير لتسهيل تنفيذ مخالفة عقوبتها السجن عشر سنوات. وإذا كانت المخالفة عقوبتها السجن المؤبد يعاقب بالسجن خمسة عشر عاماً، إذا ما ساهم في تأهيل مكان مناسب لتنفيذ مخالفة، أو زور أوراق أو أعد أدوات أو جمع معلومات، بهدف تنفيذ المخالفة أو ساعد في توفير وسيلة هرب كتجهيز طريق أو نفق.
إن ما يثير القلق حالياً هي الرسالة الموجهة للبنوك العاملة في الأرض المحتلة حول حسابات المعتقلين والأسرى والشهداء، على اعتبار أن هناك صلاحية بمصادرة الأموال المتوفرة في هذه الحسابات تحت بند انها تُمنح "كمكافأة" على ارتكاب مخالفة. ولكن الأخطر، هو استحداث وضع اليد على ممتلكات منظمة "غير شرعية" بناءً على هذه التعريفات الفضفاضة، واستخدام أنظمة الطوارئ البريطانية، الملغاة أصلًا، لإتاحة مساحة واسعة جداً للقائد العسكري ليعلن عن أي منظمة أو نقابة أو حزب أو حركة طلابية، أو نادي رياضي، أو أي جهة أخرى كمنظمة "غير شرعية". ويجب التذكير بأن منظمة التحرير الفلسطينية، وغالبية الأحزاب والحركات الطلابية قد أُعلنت مسبقاً كتنظيمات "غير شرعية" بموجب الأوامر العسكرية الإسرائيلية وأنظمة الطوارئ المذكورة سابقاً.
كما أن التعديل (67) يشمل تعديلات على عقوبة من يقف على رأس منظمة "غير شرعية"، أو له دور في توجيه منظمة كهذه بشكل مباشر أو غير مباشر بالسجن (25) سنة. وإذا نفذت هذه المنظمة مخالفة القتل العمد فالعقوبة تكون بالسجن المؤبد، ومن يشغل منصب في هذه المنظمة يعاقب بالسجن لعشر سنوات.
لا يمكن قراءة هذا التعديل بمعزل عن مجمل الأوامر العسكرية التي تُنظم عمل المحاكم العسكرية والإجراءات القضائية، والصلاحيات الممنوحة للقائد العسكري أو أي جندي من قوات الاحتلال، خاصة صلاحية القائد العسكري في إصدار أي اعلان عن أي جهة بأنها "غير شرعية" بموجب "مواد سرية". ولا يمكن الاستئناف على هذا القرار أمام محكمة العسكرية، ويمكن فقط الاعتراض أمام لجنة عسكرية خاصة. ويجدر التأكيد هنا حول التعسف باستخدام "المواد السرية"، كما تُستخدم بتعسف في ملفات الاعتقال الإداري، والتي أكدت مختلف لجان الأمم المتحدة، كفريق الأمم المتحدة العامل المعني بمسألة الاحتجاز التعسفي، ولجنة مناهضة التعذيب، أن الشكل الذي تمارس به سلطات الاحتلال الاعتقال الإداري هو اعتقال تعسفي بل قد يرتقي لمستوى التعذيب النفسي، وكلاهما يعتبر جريمة حرب، وربما جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي.
إضافة لعدم احترام المحاكم العسكرية لضمانات المحاكمات العادلة، فإن معظم هذه التعديلات الأخيرة تشترط بقيام المشتبه به إثبات أنه ليس عضواً في "منظمة غير قانونية"، أو أن الممتلكات التي تم وضع اليد عليها لا تعود لمنظمة غير قانونية أو لم يتم استخدامها في ارتكاب مخالفة ما، أي أن الأمر العسكري نقل وضع عبء الإثبات على المتهم، في مخالفة صريحة لمبدأ قانوني راسخ (البينة على من ادعى). السواد الأعظم من الملفات السرية ينتهي بصفقة بعد أن تكون غالبية البينات في الملفات هي اعترافات لمعتقلين أُخذت بعد اقتراف جريمة التعذيب والضغط والترهيب بحقهم، كون النظام القضائي العسكري - كما القانون الإسرائيلي - لا يعتبر هذه الإفادات باطلة حتى لو اُنتزعت من خلال اقتراف جريمة التعذيب، ما يؤكد أن جريمة التعذيب ليست ممنوعة بشكل مُطلق في النظام القضائي لدولة الاحتلال أو في محاكمه العسكرية.
يطول شرح كافة الانتهاكات الجوهرية والخطيرة التي تتضمنها الأوامر العسكرية وتعديلاتها وجهاز القضاء العسكري، لكافة المعايير الدولية ذات العلاقة بحقوق المعتقلين، وضمانات المحاكمة العادلة. ولكن يجب التأكيد أن عدم توفير محاكمة عادلة بموجب القانون الدولي الإنساني وكذلك "نظام روما" هو جريمة حرب يجب مساءلة دولة الاحتلال ومحاسبتها عليها، من خلال مئات آلاف القضايا التي نُظرت أمام هذه المحاكم خلال عقود الاحتلال. كما لا يمكن للمجتمع الدولي أن يأخذ بالقرارات الصادرة عن هذه المحاكم كحقائق نافذة، وإلا كان متواطئاً مع دولة الاحتلال بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المعتقلين الفلسطينيين.