مخيم الجليل (ويفل): واقع متردٍ ومعاناة مستمرة في ظل غياب الحد الأدنى من الحقوق الأساسية

يمثل مخيم الجليل (ويفل) للاجئين الفلسطينيين، الواقع في أطراف مدينة بعلبك ضمن محافظة البقاع اللبنانية، شاهدًا حيًا على استمرار معاناة اللاجئين الفلسطينيين منذ النكبة عام 1948. وقد أنشئ المخيم عام 1952 على أنقاض ثكنة عسكرية فرنسية، وتحول مع مرور الوقت إلى مساحة مكتظة بالسكان تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة، في ظل تهميش رسمي وتقليص متواصل لخدمات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

وفي ظل تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان، باتت معاناة سكان المخيم أكثر تعقيدًا، خصوصًا مع انعدام الحماية الاجتماعية، وغياب أي خطة تنموية شاملة لتحسين ظروفهم المعيشية.

تسعى هذه الدراسة الميدانية، الصادرة عن المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)، إلى نقل الواقع كما هو، من خلال الزيارات الميدانية، ولقاءات مباشرة مع الأهالي والمعنيين، ورصد الانتهاكات التي تطال الحقوق الأساسية للسكان، استنادًا إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان، لا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

أولًا: الخلفية العامة للمخيم

يقع مخيم الجليل في مدينة بعلبك، وهو المخيم الفلسطيني الوحيد في منطقة البقاع. تأسس عام 1952، ويُقدّر عدد سكانه الحاليين بحسب مصادر المجتمع المدني بنحو 850 عائلة (620 من فلسطينيي لبنان، 220 من فلسطينيي سوريا، و10 من لاجئين سوريين غير فلسطينيين). فيما تشير اللجنة الشعبية في المخيم إلى أن عدد العائلات يتجاوز 1265 عائلة تشمل من يسكن داخل المخيم وأيضًا في الأحياء المجاورة ومدينة بعلبك وضواحيها.

يُعزى هذا التباين إلى اختلاف منهجيات التقدير والتعريفات المستخدمة، حيث تعتمد مؤسسات المجتمع المدني على الإحصاء القائم داخل حدود المخيم، بينما تعتمد اللجنة الشعبية تقديرًا أوسع يشمل العائلات النازحة القاطنة في الجوار. وعليه، توصي (شاهد) بتوحيد مصادر البيانات واعتماد تعريف دقيق لـ"الأسرة اللاجئة" لأغراض التوثيق والرصد الحقوقي.

تُعاني البنية التحتية للمخيم من تهالك كبير، إذ تتسم المساكن بالرطوبة والتشققات، وقد ازدادت هذه الأضرار بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2024، حيث طالت الغارات محيط المخيم. في ظل ذلك، توقفت الأونروا عن تنفيذ برامج إعادة التأهيل والترميم منذ سنوات، مما يشكّل انتهاكًا واضحًا للحق في السكن الملائم بموجب المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وتُظهر الإحصاءات الميدانية أن نسبة البطالة والفقر في المخيم تتجاوز 85%، وتزداد سوءًا خلال فصل الشتاء بسبب تعطل الأعمال الموسمية. وتعتمد أغلب الأسر على التحويلات المالية من الخارج، ما يعكس غياب الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية، وهو انتهاك مباشر لحق اللاجئين في مستوى معيشي لائق.

ثانيًا: الواقع الصحي في المخيم

يعاني سكان المخيم من أوضاع صحية متردية، بسبب ضعف البنية التحتية الصحية، ونقص الكادر الطبي، وعدم توفّر الأدوية المزمنة. وتُعد هذه الانتهاكات خرقًا لحق الإنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسدية والعقلية وفق المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

أبرز ما رصدته (شاهد) في هذا السياق:

  • تعاقد قسم الصحة في الأونروا مع مستوصفات صغيرة تُصنف كمراكز أولية، بدلًا من التعاقد مع مستشفيات ذات كفاءة عالية مثل مستشفى دار الأمل الجامعي.
  • عدم تغطية تكاليف غسيل الكلى لخمسة مرضى، رغم تجاوز تكلفة الجلسة الواحدة 50 دولارًا، بمتوسط شهري يزيد عن 200 دولار لكل مريض. وزارة الصحة اللبنانية تغطي 80% فقط من التكلفة، ويتحمل المرضى باقي التكاليف دون دعم من الأونروا.
  • إجبار مرضى السرطان على تحمّل تكاليف إضافية بشراء أدويتهم من صيدليات بعيدة (صيدا وبيروت)، في انتهاك لحق الوصول إلى الدواء.
  • رفض تغطية العلاج الشعاعي لمرضى السرطان بذريعة عدم التعاقد مع المستشفيات المختصة، رغم أن عدد مرضى السرطان في المخيم والمنطقة يبلغ 32 حالة.
  • تغطية جزئية لا تتجاوز 50% من تكلفة العلاج، وبسقف سنوي لا يتجاوز 8000 دولار لكل حالة، وهي تغطية لا تتناسب مع الواقع الطبي.
  • غياب أطباء اختصاصيين في عيادات البقاع، واقتصار الزيارات التخصصية على طبيب قلب مرتين شهريًا فقط.
  • نقص حاد في أدوية الأمراض المزمنة، ما يدفع الأهالي إلى شرائها على نفقتهم الخاصة رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة.

إلى جانب ذلك، تقدم جمعية الشفاء خدمات صحية لأكثر من 500 مريض شهريًا (نحو نصفهم من الفلسطينيين)، وهي تغطي المعاينات، الإسعاف الأولي، تصوير الأشعة، المختبرات، والأسنان. لكن هذه المبادرة تظل غير كافية لتعويض غياب دور الأونروا.

أما مستوصف الشهيد ماجد أبو شرار التابع للهلال الأحمر الفلسطيني، فقد تم تفريغه من معداته التي نُقلت إلى مستشفى الناصرة، واقتصر دوره على عيادة طوارئ فقط.

ثالثًا: أزمة المياه والبنية التحتية

توفّر الأونروا المياه عبر بئرين وخزانين، لكن نوعية المياه وجودتها تظل دون المستوى، ما يدفع السكان لشراء مياه الشرب شهريًا بتكلفة تصل إلى 100 دولار للأسرة.

وقد فشلت محاولات سابقة لحفر آبار جديدة بتمويل من جهات مانحة، بسبب ثبوت تلوث المياه المستخرجة بحسب فحوصات أجرتها فرق تقنية تابعة للجهات المنفذة، دون إعلان رسمي من الأونروا. وعليه، فإن غياب الشفافية في تقارير فحص المياه يمثل خللاً في إدارة الموارد ويقوّض الحق في المياه الصالحة للشرب (المادة 14 من قرار الأمم المتحدة رقم 64/292 بشأن الحق في الماء).

لاحقًا، تم حفر بئر جديد بتمويل ياباني، وأُعلن عن وجود مخزون كبير من المياه على عمق 860 مترًا، لكن تبين لاحقًا أن الكمية غير كافية، مما اضطر إلى تقنين المياه وتوزيعها بالتناوب بين الأحياء (ساعة واحدة يوميًا). هذا الوضع يعيق الاستقرار المعيشي والصحي ويُعد انتهاكًا صريحًا للحق في المياه.

رابعًا: النظافة وتقليص خدمات الأونروا

تعاني خدمات النظافة في المخيم من تراجع حاد. كان عدد عمال النظافة ثمانية، لكن بعد تقاعد ثلاثة منهم، لم تعيّن الأونروا بدائل دائمين، بل استعاضت عنهم بعمال بعقود مؤقتة (برنامج KFW) لمدة 40 يومًا فقط. هذا الأسلوب يفتقر إلى الاستدامة، ويخالف مبدأ الحق في بيئة نظيفة وصحية.

خامسًا: التدفئة وغياب الحماية الشتوية

توزّع الأونروا سنويًا مساعدات للتدفئة، سواء على شكل مازوت أو دعم مالي، لكن الكمية تغطي بالكاد 3إلى 4 أسابيع فقط، في حين أن البرد القارس في البقاع يستمر لأكثر من خمسة أشهر وليس سبعة كما ورد في النسخة السابقة. هذا النقص في التدفئة يشكّل تهديدًا مباشرًا للحق في الحياة والصحة، خصوصًا للأطفال وكبار السن.

سادسًا: التعليم وتحديات البنية المدرسية

يضم المخيم مدرسة واحدة فقط تابعة للأونروا، هي ثانوية الجليل المختلطة، وتستقبل حوالي 950 طالبًا وطالبة من جميع المراحل. تعاني المدرسة من:

  • اكتظاظ في الصفوف ونقص في المعدات.
  • إلغاء عدد من الشواغر التربوية بعد قرار الأونروا بدمج بعض المدارس في نيسان 2025، حيث فقدت المدرسة مديرًا، نائب مدير، و3 معلمين (بواقع وظيفي قدره 2.5 وظيفة تعليمية).
  • دمج مدرستي طبريا والقسطل تحت إدارة واحدة دون تعيين نائب إداري.
  • دمج صفوف داخلية بسبب انخفاض أعداد الطلبة، وهو ما يؤثر سلبًا على جودة التعليم الفردي.
  • أعطال مزمنة في نظام التدفئة داخل المبنى المدرسي دون وجود خطة واضحة للإصلاح.
  • ارتفاع معدلات التسرب، خاصة بين الذكور، نتيجة الظروف الاقتصادية التي تدفعهم للانخراط في سوق العمل.
  • تدنٍ ملحوظ في التحصيل العلمي، خاصة في نتائج الامتحانات الرسمية، ما يهدد مستقبل الطلاب الأكاديمي.

تشكّل هذه الممارسات انتهاكًا لحق الطفل في التعليم الجيد والشامل (المادة 28 من اتفاقية حقوق الطفل).

سابعًا: مؤسسات المجتمع المدني

يوجد في المخيم عدد محدود من الجمعيات الأهلية، لا يتجاوز 10 مؤسسات مسجّلة وناشطة حاليًا، وتواجه معظمها تحديات مالية كبيرة نتيجة وقف الدعم الدولي، خاصة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. تقتصر أنشطتها على برامج إغاثية ودعم دراسي ومبادرات محدودة، في ظل غياب استراتيجيات حقوقية وتنموية متكاملة.

كما لوحظ غياب التنسيق بين هذه الجمعيات، ما يؤدي إلى تكرار الخدمات وغياب التكامل في الاستجابة، وهو ما يستدعي تطوير آليات شراكة فعالة وخطة تنموية موحدة لتقليل الفجوات وضمان شمولية البرامج.

التوصيات

انطلاقًا من مبدأ الحق في الكرامة والعدالة الاجتماعية، ووفقًا لالتزامات الأونروا القانونية والإنسانية، توصي المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) بما يلي:

  • إعادة النظر في سياسات التعاقد الصحي في البقاع، وتوسيع التغطية العلاجية لتشمل حالات السرطان والفشل الكلوي بشكل كامل وعادل.
  • توفير مياه نظيفة وصالحة للشرب من خلال خطط شفافة ومستدامة، تشمل حفر آبار مطابقة للمواصفات، وضمان كفاية التوزيع العادل.
  • إنهاء نمط التوظيف المؤقت في قطاع النظافة وتثبيت العمال لضمان بيئة آمنة وصحية.
  • زيادة مخصصات التدفئة الشتوية بما يتناسب مع احتياجات الأسر في منطقة باردة كالبقاع، مع تحسين أنظمة التوزيع.
  • معالجة تحديات التعليم عبر تعيين كوادر تعليمية جديدة، وفك الدمج الذي يضر بجودة التعليم، وتحسين البنية التحتية المدرسية.
  • تعزيز قدرات منظمات المجتمع المدني عبر دعم مالي مستدام وتدريب فني، مع إطلاق منصات تنسيق مشتركة بين الجمعيات العاملة.
  • دعوة المجتمع الدولي والجهات المانحة إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه اللاجئين الفلسطينيين في البقاع، باعتباره منطقة مهمّشة وذات احتياجات عالية.