تعتبر منظمات حقوق الإنسان جزء من منظومة
المجتمع المدني التي باتت تحتل أهمية خاصة في الوقت الراهن. فأوضاع حقوق الإنسان
تزداد سوءاً عاماً بعد عام، لا سيما أثناء فترات الحروب، كما أن غياب الديموقراطية
الحقيقية المتمثلة بالمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية جعل من حقوق الإنسان عرضة
لأوسع عمليات الانتهاك.
وتتميز منظمات حقوق الإنسان عن غيرها بشكل عام أنها منظمات مهنية حيادية موضوعية، تحمل رسالة إنسانية سامية
عنوانها الكرامة الإنسانية. وتواجه في سبيل حمل هذه الرسالة شتى أنواع التحديات
والمصاعب.
في بيئة سياسية غير مواتية تتزاحم فيها
الأحزاب السياسية للوصول للحكم أو تسعى للحفاظ على المكاسب السياسية بطريقة غير
ديمقراطية، فإن عمل منظمات حقوق الإنسان يصبح أكثر صعوبة. وتتهم المنظمات الحقوقية
في أي بيان أو تقرير أو نشاط على أنها غير حيادية.
إن المتاعب التي تواجهها منظمات حقوق الإنسان
والاتهامات الهائلة التي توجه إليها لا تختلف من حيث المضمون بين منظمة وأخرى سواء
كانت محلية أم إقليمية أم دولية. وتزداد هذه الاتهامات كلما كانت المنظمة الحقوقية
نشطة وجريئة وتتناول قضايا إشكالية.
وثمة قاعدة ذهبية راسخة في العمل الحقوقي
تقول " ليس هناك أناس حياديون لكن هناك سلوكيات حيادية". أي ثمة ضوابط
وإجراءات وقواعد واجبة التطبيق، وتسمى جميعها بالمعايير المهنية المطلوبة.
أن تكون حقوقيا هذا يعني عليك أن تميز بين
أمرين، بين المهنية الوظيفية المطلوبة وبين الفكر السياسي الذي تحمله وهو حق لك
كإنسان. فإنك حين تنضوي في عمل حقوقي فعليك أن تتبع المعايير المهنية المطلوبة.
إن المعايير المهنية المطلوبة لا تعني أن
تنسلخ من أفكارك السياسية، بل تعني أن تدعها جانباً حين تعمل في مؤسسة حقوقية، لأن
العمل السياسي يعني أن لك خصوم ولك مصالح في حين أن المنظمات الحقوقية ليست خصماً
سياسياً لأحد إنها تنشد كرامة الإنسان.
نعمل مع كل القوى السياسية الفلسطينية نتحاور
ننتقد بشكل مباشر أمامهم، ولا نلجأ إلى الإعلام إلا في المراحل النهائية لأننا
لسنا جهة تبحث عن السبق الصحفي إننا مؤسسة حقوقية. ونلتقي بالبعثات الدبلوماسية
بشكل متواصل نسجل مواقفنا بكل جرأة ومسؤولية ونسجل موقفاً أمام الرأي العام حين
يتطلب الأمر ذلك. نلتقي بمسؤولي الأونروا بشكل متواصل نوثق نتحاور ننتقد، لا نلجأ
للإعلام إلا حين تفشل كل المساعي والجهود. نلتقي بالمسؤولين اللبنانيين سياسيين
وأمنيين نسلمهم مذكرات نتحاور معهم بشكل متواصل. مما يعني أننا لسنا خصماً سياسيا
لأحد ونلتقي مع الجميع وفق ضوابط مهنية صارمة.
وتعمل المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان
(شاهد) في بيئتين صعبتين.
البيئة
الأولى هي بيئة الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يروق له أن تشوه صورته في المحافل
الدولية نتيجة سلوكه غير الإنساني ضد سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة ولا أن تمس
سمعته في المجتمع الدولي، ولعل (شاهد) نشطت في العقد الأخير من عملها في هذا
الاتجاه واستطاعت أن تصل بهمة ونشاط إلى منابر دولية متعددة وهي تسير بخطى ثابتة.
والاحتلال الإسرائيلي من دون شك يكيل لـ (شاهد) شتى الاتهامات ويتهمها بعدم
الحيادية، تماما مثلما اتهم من قبل منظمات حقوقية محلية ودولية مثل منظمة العفو
الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش، كما اتهم مقررين للأمم المتحدة كذلك والحديث في
ذلك يطول. وقد لمست (شاهد) محاولات إسرائيلية متعددة لعرقلة عمل المؤسسة أو اتهامها
اتهامات بعدم الحيادية في غير زمان ومكان.
البيئة الثانية: البيئة العربية والفلسطينية
المعقدة: تعمل (شاهد) في بيئة فلسطينية غاية في التعقيد بين قواها السياسية
المختلفة، فبين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية في قطاع
غزة قصص من الخصومة السياسية تكاد لا تنتهي، وبين الفلسطينيين في الشتات لا سيما
في لبنان أيضا قصص من الخصومة السياسية والتنافس السياسي أيضا يصعب وصفها بسهولة.
وبين هذا وذاك تعمل المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) وتنشط في كل
الاتجاهات، وهي تلقى نتيجة لهذا النشاط اتهامات متعددة أقلها انها ليست حيادية.
وتصدر (شاهد) تقارير متعددة تبذل فيها قصارى
جهدها للاطلاع على وجهات النظر كلها ولا تعتمد على رواية واحدة أو مصدر واحد، وتتريث
كثيراً قبل إصدار أي تقرير أو موقف حقوقي، وقبل أن تكون الشروط الحقوقية قد
استوفيت. في هذا الجو المعقد كيف يمكن لتقرير أن يرضي هذا ولا يرضي ذاك. ومن
يستطيع أساساً أن يرضي الأطراف المتنافسة والمتخاصمة.
إن أسهل أمر للأطراف المتخاصمة هو اتهام
المؤسسات الحقوقية بعدم الحيادية، بعيداً عن التقييم الحقوقي والمهني الرصين.
ثم يتم اتهام المنظمات الحقوقية بأنها مقصرة
ولا تقوم بواجبها الإنساني تجاه الحالات الإنسانية. دعونا نشرح دور وقدرة منظمات
حقوق الإنسان في الدفاع عن حقوق الإنسان. إن منظمات حقوق الإنسان ليست سلطات
تنفيذية وهي ليست جهة حاكمة ذات تأثير سياسي كبير، كما أنها لا تملك الإمكانات
المالية والبشرية الهائلة التي تمكنها من التصدي لكل الحالات الإنسانية، وهي لا
تملك مفاتيح السجون ولا منح الجامعات، وليس بيدها قرار إدارات المستشفيات كي تعالج
المرضى بالمجان...
والسؤال الأهم من هذا وذاك، أين هي الجهات
السياسية الرسمية؟ لماذا هي تقصر ثم يطلب من المنظمات الحقوقية أن تقوم بواجبها.
ألا تملك القرار السياسي؟ أليست هي الجهة الرسمية التي تفاوض وتتحدث وبيدها
الإمكانات المالية؟ ثم من حيث المبدأ أليست هي مسؤولة تجاه المواطنين؟
إن المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)
نشأت في ظروف سياسية فلسطينية وعربية ولبنانية معقدة. هي مؤسسة عصامية بكل معنى
الكلمة اعتمدت على الإمكانات البشرية والمالية المتواضعة جداً، لم تتلق التمويل
الغربي السخي، وظلت تعمل تحت عناوين مختلفة تارة تحت شركة غير ربحية تحمل اسم
مؤسسة شاهد لحقوق الإنسان بسبب صعوبة منح العلم والخبر للمنظمات الفلسطينية وطوراً
المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) بعد حصولها على العلم والخبر كل ذلك كان يتم
بجدية متناهية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
أصدرت (شاهد) عشرات بل مئات التقارير
والبيانات الحقوقية سجلت عشرات المواقف، أرسلت مئات المناشدات والمذكرات، أجرت
مئات اللقاءات مع جهات رسمية وسياسية ودبلوماسية وأممية، شاركت في مئات المقابلات
الإعلامية، شاركت بفعالية بعشرات المناشط على المستوى المحلي والعربي والدولي.
لم يسجل على المؤسسة يوما أنها أدارت الظهر
عن حالة إنسانية لجأت إليها أو مناشدة حقوقية وصلت إليها. إنها تتابع الأمر حتى
آخر نفس.
إن فريقها العامل خضع لعشرات الدورات
التدريبية الحقوقية محلياً وعربياً ودولياً، وطور نفسه بشكل ملحوظ، فالكثير من الفريق
العامل حصل على شهادات ماجستير.
وفي وقت مبكر من عملها، فتحت (شاهد) باب
التطوع فتدفق العشرات من شبابنا وبناتنا للعمل في المؤسسة كمتطوعين. واستطاعت أن
تنظم عملية التطوع بشكل جيد حيث تم استثمار العنصر البشري بطريقة تخدم القضايا
الحقوقية.
إن الذين يديرون المؤسسة الفلسطينية لحقوق
الإنسان (شاهد) هم من البشر أي يصيبون ويخطئون، لكن الصدق الذي يحمله العاملون
فيها ربما يشفع لهم أخطاءهم التي هي أخطاء تقنية محضة. وإيماناً منا بأننا نخطئ
ونصيب فإننا نطمح أن نستمع لكل نقد بناء يستند إلى المنطق والدليل لا إلى الاتهامات
الزائفة بأسماء وهمية غير معروفة.
إننا نؤمن أن الشراكة مع المجتمع المدني ومع
القوى السياسية أمر استراتيجي في تفكيرنا وبرامجنا لأننا باختصار شديد نكون قد
حققنا الشراكة في معركة الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني أينما وجد.
بيروت في 29/5/2019
الدكتور محمود الحنفي
مدير المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)