محكمة
الجنايات الدولية بين
أمل محاسبة مجرمي الحرب الإسرائليين وخوف
الإفلات من العقاب
قراءة
قانونية في دور الأطراف الثلاث: محكمة
الجنايات الدولية، السلطة الفلسطينية، دولة الاحتلال الإسرائيلي
تقرير
حقوقي 08/06/2015
بين أمل محاسبة مجرمي الحرب الإسرائليين
وخوف الإفلات من العقاب
أصبحت
دولة فلسطين في الأول من نيسان 2015 عضواً رسميًا في المحكمة الجنائية الدولية ما
يتيح لها ملاحقة مسؤولين إسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب أو غيرها من الجرائم
الأمر الذي يفتح ميداناً جديدا من ميادين الصراع مع الاحتلال. وجرى حفلُ في جلسٍةَ
مغلقةٍ في مقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بمناسبة هذا الانضمام الذي يشكل
خطوةً جديدةً في حملةٍ دبلوماسيةٍ وقضائية أطلقتها منظمات المجتمع المدني المحلية
والإقليمية والدولية في عام 2014(
[1]
)
الأمر الذي دفع قيادة السلطة الفلسطينية للرضوخ لهذه المطالب. ومنذ هذا التاريخ تُطرَحُ الكثير من الأسئلة عن مدى جدوى
الملاحقة القانونية للاحتلال في محكمة لاهاي، فماذا أعدت السطة الفلسطينية لملاحقة
الإحتلال الإسرائيلي في المحاكم الدولية؟ وما هو دور المحكمة بعد الاعتراف الرسمي
بدولة فلسطين كعضوٍ في محكمة الجنايات الدولية؟ وهل من هناك من امكانية من محاسبة
الاحتلال؟ ما هو رد الفعل الإسرائيلي حيال هذا التطور؟ ثم أخيراً ما هي الخلاصات
والتوصيات حيال كل ذلك؟
أولا
: المحكمة
الجنائية الدولية والإنضمام اليها
أعلن الناطق الرسمي باسم المحكمة الجنائية الدولية فادي
العبدالله أن فلسطين انضمت رسميًا إلى المحكمة بصفة عضوٍ كاملِ الحقوق. وأوضح أن
اتفاقية روما التي تعتمد عليها المحكمة في أنشطتها، دخلت بكامل بنودها حيز التطبيق
بالنسبة لفلسطين، بما في ذلك حقوق وواجبات الدولة العضو. وأعلنت المحكمة الدولية
في حفلٍ خاصٍ، حضره وزير خارجية السلطة الفلسطينية رياض المالكي الذي تسلم ميثاق روما الأساسي،
رسميا عن انضمام دولة فلسطين إلى المحكمة لتصبح العضو 123.
إنَ قيام مكتب المدعي العام بفتح دراسة أولية لا يعني أن
تحقيقًا سيفتح؛ فمعظم الدراسات الأولية التي أجراها المدَعي العام أُغلقت دون فتح
تحقيقات. بل إن المدعي العام يفتح دراسةً أولية في كل حالة تُحال إليه.
تتألف مرحلة الدراسة الأولية من تقييم أولي للمعلومات؛
وحل مسائل الاختصاص من خلال تحديد مكان وقوع الجريمة المعنية ونوعها؛ والنظر في
مقبولية الوضع والحالات المحددة؛ وآثار تحرك المحكمة المحتمل على "مصلحة
العدالة" في السياق الفلسطيني الإسرائيلي الأوسع.
واعتبارًا من 1
نيسان، تستطيع فلسطين بموجب المادة 14 من النظام الأساسي، بوصفها دولةً طرفًا فيه،
أن تحيل "وضعًا" دون اختيار حالاتٍ محددةٍ؛ ويمكن أن يكون المضمون
المُحال جديدًا، أو أن يحتوي على الإعلان الصادر في كانون الثاني 2015 بموجب
المادة 12(3). وإذا حاولَ المسؤولون الفلسطينيون لفت انتباه مكتب المدعي العام إلى
حالاتٍ محددةٍ، فإنه قد يرفض الإحالة. وأي إحالةٍ من هذا القبيل، كما هي حال
الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3)، لن تقيد نوع الحالات أو الأدلة التي ينظر فيها
مكتب المدعي العام، ومن المستبعد للغاية أن تشيح انتباه المدًعي العام عن الانتهاكات الفلسطينية.
إذا قرر المدعي العام فتحَ تحقيق، ولكن قرر معاملة
الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3) على أنه منفصلُ عن أي إحالةٍ قد تحيلها فلسطين
كدولةٍ طرف بعد الأول من نيسان، فإن التحقيق سيُفتح تلقائيًا وستكون موافقة
الدائرة التمهيدية مطلوبة من أجل المضي قدمًا في التحقيق. وإذا قرر المدعي العام
أن يعامل الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3) على أنه إحالة من دولةٍ بعد أن صار
انضمام فلسطين فاعلًا وساريًا، أو إذا قدَّمت فلسطين إحالةً بموجب المادة 14
بالمعايير نفسها وبتاريخ يعود إلى 13 حزيران/يونيو 2014 – فعندئذ لا حاجة لموافقة
الدائرة التمهيدية.
إذا رفض المدعي العام فتح تحقيق، فسيكون هناك أيضًا
اختلافٌ إجرائي بين الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3) والإحالة. فإذا كان قرارُ
المدعي العام رَفْضَ فتح التحقيق مستندًا إلى اعتبارات "مصالح العدالة"
سيتسنى لفلسطين أن تلتمس من الدائرة التمهيدية أن تشرعَ في مراجعة
"صارمة". وأمّا إذا كان قرار رفض التحقيق مستندًا إلى مخاوف بشأن
المقبولية - بما في ذلك انتفاء خطورة الوضع أو توفر آليات محلية للملاحقة القضائية
كما حدث للإحالة التي أجرتها جزر القمر فإنه لا يسع الدائرة التمهيدية إلا أن تطلب
من المدعي العام إعادة النظر، ولكن لا يمكنها أن تأمره بذلك.
يقول خبراء في شؤون المحكمة الجنائية الدولية إنه ليس من
المرجح أن تنتقد الدائرة التمهيدية قرار المدعي العام بعدم التحقيق أو أن ترفض
الموافقة على قرار المدعي العام بفتح التحقيق تلقائيًا. فلم يسبق قط أن أمرت
الدائرة التمهيدية المدعي العام بفتح تحقيق. وفي هذا الصدد، يقول كيفين جون هيلر
بخصوص الإحالة التي أودعتها جزر القمر بشأن قضية أسطول الحرية: "لا أحد يعرف
تمامًا ما سيحدث لو أن الدائرة التمهيدية أمرت المدعي العام بإجراء تحقيق رسمي ضد
إرادته". وهكذا، وخلافًا لتصريحات المسؤولين الفلسطينيين بأنه على فلسطين أن
تُوْدِعَ إحالةً بموجب المادة 14 في الأول من نيسان لتوجيه المدعي العام بفتح
تحقيق – ولا سيما في ملف المستوطنات، فإنه لا يمكن "إجبار" مكتب المدعي
العام على فتح تحقيقٍ أو التقدم بطلب إلى الدائرة التمهيدية لفتح تحقيقٍ رسميٍ.
ولا يمكن لفلسطين كدولةٍ طرف، بعد الأول من نيسان، أن توجّه قرار المدعي العام
بالنظر في التحقيق في حالاتٍ معينةٍ دون سواها.(
[2]
)
وكانت المدعية العامه للمحكمة، فاتو بنسودا، بدأت دراسةً
أوليةً للوضع في فلسطين في 16 يناير (كانون الثاني) 2015، تتضمن عملية فحص
المعلومات المتوفرة، بغية الوصول إلى قرار يستند إلى معلومات حقيقية، حول ما إذا
كان هناك سبب وجيه للاستمرار في التحقيق، بموجب المعايير التي أسسها نظام روما
الأساسي. حثت الجنائية الدولية اسرائيل على التعاون في التحقيقات
الأولية الخاصة في الحرب على قطاع غزة في الصيف الماضي، ودعتها الى تقديم الملفات
والمعلومات الخاصة بهذا التحقيق. وحذرتها أيضا من أنه في حال عدم توفر معلومات موثوقة من
الجانب الإسرائيلي للتحقيق الأولي في جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية، فإن
المحكمة قد تضطر الى اتخاذ قرار بإجراء تحقيق واسع النطاق استنادًا الى الادعاءات
الفلسطينية فقط. وقال فاتو بنسودا في مقابلة صحفية أن محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، لم
تتلقَ أيَ معلوماتٍ حتَى الآن من أيٍ من الجانبين فيما يتعلق بحرب غزة الصيف
الماضي. وشددت المدعية العامة على أنه من "مصلحة" كلا الجانبين توفير
المعلومات.(
[3]
)
ثانياً:الدولة الفلسطينية والمحكمة الجنائية الدولية
أصدر
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مرسوماً رئاسيًا بتشكيل اللجنة الوطنية العليا
المسؤولة عن المتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية، وجاء في المرسوم: "تنشأ
بموجب أحكام هذا المرسوم لجنةُ وطنيةُ عليا تسمى اللجنة الوطنية العليا المسؤولة عن
المتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية، وتشكل بالتعاون مع المؤسسات والوزارات
الفلسطينية بما فيها المؤسسات الأهلية ذات العلاقة".
وتحدث المرسوم عن مهام اللجنة الرئيسية، واضعاً
إياها في ثلاث نقاط رئيسية،
1.
إعداد وتحضير الوثائق والملفات التي ستقوم
دولة فلسطين بتقديمها وإحالتها إلى المحكمة الجنائية الدولية، من خلال لجنةٍ فنيةٍ
ترأسها وزارة الخارجية، وتقرر اللجنة الوطنية العليا أولوياتها بهذا الخصوص، ولها
الاستعانة بمن تراه مناسباً، وتشكيل اللجان الفنية والقانونية المتخصصة بحيث تكون
اللجنة الوطنية العليا مرجعيةَ لها.
2.
مواصلة اللجنة الوطنية العليا المشاورات
مع المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من المؤسسات الدولية والمحلية ذات الصلة
ومستشارين قانونيين ومحامين وشركات محاماة للدفاع عن أبناء الشعب الفلسطيني في
مواجهة أية دعوى أو انتهاكات أو جرائم ترتكب بحقه وتقع ضمن اختصاص المحكمة
الجنائية الدولية.
3.
متابعة الاتصالات مع مؤسسات المجتمع
المدني، إقليمياً، ودولياً، ووضع خطةٍ إعلاميةٍ شاملة ٍبخصوص مختلف المهام الملقاة
على عاتقها.
وأعلن
المرسوم الرئاسي أن اللجنة برئاسة صائب عريقات رئيس دائرة المفاوضات في اللجنة
التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعضوية أربعين شخصيةً، تضم أعضاءً في اللجنة
التنفيذية، وعدداً من الوزارات، وأمناء الفصائل، وقيادة المؤسسة الحقوقية، ومؤسسات
المرأة، والأجهزة الأمنية، وغيرها من المؤسسات الفلسطينية ذات العلاقة.(
[4]
)
وأعلن مسؤولون في السلطة الفلسطينية أنه تم تقديم
طلب لمحكمة الجنايات الدولية لتحدد موعداً لتقديم ملفي الاستيطان وجرائم الحرب
للمحكمة. ومع أن اللجنة المشكلة هي لجنة فنية كما جاء في المرسوم إلا أن الطابع
السياسي هو الغالب عليها حيث يترأسها الدكتور صائب عريقات ويوجد فيها رؤساء
الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية وأن هذه اللجنة لا يمكنها أن تتقدم خطوة باتجاه
المحكمة من دون موافقة قيادة السلطة الفلسطينية.
ومن
المتوقع أن يتم تقديم وثائق بملفي
الاستيطان وجرائم الحرب الإسرائيلية بغزة، للمحكمة الجنائية الدولية يوم 25 حزيران
المقبل، يتبعها زيارة رسمية هي الأولى للجنائية الدولية لفلسطين بعد شهر من تسليم
الوثائق.
ثالثاً:كيف تنظر دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى محكمة الجنايات الدولية؟
بعد طلب محكمة الجنايات الدولية الأطراف بتقديم المعلومات والوثائق والتعاون مع
المحكمة رفضت اسرائيل التعاون وتقديم أي معلومات عن الحرب الأخيرة في صيف 2014.
وكانت المدعية العامة قد هددت بفتح تحقيق من جانب واحد بالاستناد الى الدعاوي الفلسطينية بهذا الشأن. وصدرت آراء قانونيين اسرائيليين حول كيفية
التعامل مع محكمة الجنايات الدولية.
ونقلت صحيفة معاريف الإسرائيلية عن قانونيون إسرائيليين قولهم
"كيف يمكن لاسرائيل أن ترد على موضوعٍ حساسٍ كهذا، الذي من شأنه أن يقيًد
حرية تنقل الضباط والسياسيين الإسرائيليين حول العالم؟".
وأشارت "معاريف" الى أنً البرفيسور آبي بال،
المحاضر في كلية القانون في جامعة بار ايلان، قال "إنني أوصي الحكومة
الاسرائيلية بعدم الرد إطلاقاً على مطلب المحكمة، لأن ذلك ليس من صلاحياتها". وأضاف "ان المدعية العامة لا تملك أي دليلٍ ضد
اسرائيل، وإذن عليها بنفسها أن تغلق الملف، وليس مُهمًا ما هو رأيها الخاص حول
الموضوع".
ورداً على تساؤلٍ فيما اذا كان بإمكان الفلسطينيين أو
حتًى مُنظمات إسرائيلية مثل "يش دين" أن تُقدم مثل هذه الدلائل وبالتالي
تستند المحكمة اليها، رد بال "إن جميع الادلة الموجودة لدى الفلسطينيين أو
المنظمات الاسرائيلية بعيدة جداً عن وصف جرائم الحرب، فهذا لم يحدث هنا ابداً، عدا
عن أن إسرائيل هي دولة بإمكانها أن تُجري تحقيقًا ذاتيًا مع نفسها، وهو ما يمنع
المحكمة الدولية من التحقيق معها".
وأوصى بال
الحكومة الإسرائيلية إلى رفض التعامل مع المحكمة ، مضيفاً "ففي اللحظة التي
تقدم فيها الحكومة مادة ما سوف تجد المحكمة فيه ما تريد، وستفسر الأمور حسب
رغبتها، وأنا في هذا المجال لا أعتمد على استقامة هيئةٍ دوليةٍ كهذه التي لها
نواياها الخاصة".
أمًا البروفيسور عاموس شبيرا، من الجامعة العبرية في
القدس، فقال "إنً الرد على مطلب المحكمة هو من اختصاص المجال الدبلوماسي،
وليس المجال الجنائي"، واقترح أن يتم التعامل مع هذا المطلب من وجهة نظر
سياسية وأن يتم التشاور من وراء الكواليس مع جهات سياسية دولية، لانها مسألةُ
سياسيةُ وليست قضائيةً.
أمًا الخبيرة القانونية الدولية سيجال هوروفيتش، فتعتقد
أنًه "في هذه الحالة (حرب غزة 2014) فليس للمحكمة الدولية أي صلاحيةٍ بالنسبة
لاسرائيل لأن اسرائيل أجرت تحقيقاً ذاتياً حول ما حدث في الحرب، ولا يحق للمحكمة
الدولية أن تتدخل".وتعتقد هوروفيتش "إنه في النهاية بإمكان اسرائيل أن
تثبت وبكل سهولةٍ أن السلطات القضائية في إسرائيل أجرت تحقيقاتها الخاصة
بكل ثقةٍ ولذا ليس هنا مجال أمام المحكمة الدولية للتدخل بالموضوع".
ويشار إلى أن المدعية العامة في محكمة الجنايات الدولية
القاضية باتو بانسودا، قد حذّرت إسرائيل أنها في حال عدم تسليم المحكمة المعلومات
الموثوقة حول العدوان على غزة، فإنها سوف تضطر للتحقيق أحادي الجانب، بالاستناد
إلى الدعوى المقدمة من السلطة الفلسطينية.
رابعا: خلاصات وتوصيات:
·
يعطي مبدأ التكامل (القضاء
المكمل) الأسبقية للقضاء الوطني لاتخاذ إجراءات بحق مرتكبي الجرائم الدولية
المزعومة. وتُقبَل الحالات والقضايا حين لا تتخذ الدولة التي يكون موظفوها مسؤولين
عن الأفعال غير المشروعة أي إجراء، أو تتخذ إجراءاتٍ غير كافية، أو تُبدي عدم
رغبةٍ أو عدم قدرةٍ. ولعل إسرائيل قد أدركت ذلك وبدأت بإجراءات قضائية شكلية كي
تسد الباب أمام أي محاولة من قبل محكمة الجنايات الدولية انطلاقا من مبدأ التكامل.
ولم تنته أي تحقيقات إسرائيلية بتوقيف أي مسؤول إسرائيلي أو ضابط جيش على سلوكه
الوحشي تجاه المدنيين الفلسطينيين.
·
مع أهمية تشكيل لجنة وطنية فلسطينية حول محكمة الجنايات
الدولية، إلا أن الطابع العام على هذه اللجنة هو الطابع السياسي سواء كان من خلال
رئاسة اللجنة نفسها أو أعضائها. كما أن طريقة عملها هي طريقة سياسية بامتياز. وبالتالي هناك مخاوف جدية من تدخل السياسية في
مسار تحقيق العدالة.
·
واضح أن المسؤولين الإسرائيليين يتكلمون بغرور عند
حديثهم عن محكمة الجنايات الدولية وأنهم يصرحون بشكل علني من أنهم لا يريدون
التعاون مع مكتب المدعي العام. والتساؤل هنا هل هذه مكابرة أم نابعة من دراسة
واقعية لمسار عمل المحكمة وصلاحياتها؟ أم أن هناك تطمينات معينة بتعطيل عمل
المحكمة فيما يخص ملاحقة المسئولين الإسرائيليين؟
·
وبالرغم
من إمكانية التلاعب في مسار تحقيق العدالة –إن جاز
التعبير- إلا أن القانون الدولي وبالذات نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية
الدولية قد وضع حلاً لهذا
الأمر فبالرجوع إلى نصوص مواد معاهدة روما، وخصوصًا
المادة (17) يتبين أن التحقيقات الشكلية أو المحاكمات الصورية لا توفر حصانة للمجرمين،
فقد نصت المادة (17) بند (1) فقرة (أ) على ما يأتي: " تقرر المحكمة أن الدعوى
غير مقبولة في حالة: "إذا كانت تجري التحقيق أو المقاضاة في الدعوى دولة لها ولاية
عليها , مالم تكن الدولة حقًا غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة، أو غير
قادرة على ذلك." ... وأيضا المادة (17) بند (2) الفقرات (أ، ب، ج): "لتحديد
عدم الرغبة في دعوى معينة, تنظر المحكمة في مدى توافر واحد أو أكثر من الأمور التالية,
حسب الحالة, مع مراعاة أصول المحاكمات التي يعترف بها القانون الدولي:
أ)جرى الاضطلاع بالإجراءات أو يجري الاضطلاع بها أو جرى اتخاذ القرار الوطني بغرض حماية
الشخص المعني من المسئولية الجنائية عن جرائم داخلة في اختصاص المحكمة على النحو المشار
إليه في المادة (5).
ب) حدث تأخير لا مبرر له في الإجراءات بما يتعارض في
هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.
ج)لم تباشر الإجراءات أو لا تجري مباشرتها بشكل مستقل، أو نزيه، أو بوشرت أو تجري مباشرتها
على نحو لا يتفق في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة".
·
وهذه النصوص هي نصوص واضحة لا غموض فيها، وبالتالي
لا يمكن قبول مثل تلك التحقيقات الشكلية، وهي لن توفر حصانة للمجرمين.
·
ومن الأمثلة على ذلك هو قرار المحكمة الجنائية
الدولية في قضية كينيا المعروضة أمام المحكمة، حيث فتح المدعي العام تحقيقًا في الجرائم
التي ارتكبت في كينيا بعد الانتخابات فيها، وأصدر المدعي العام ومن ثم قضاة المحكمة
قرارًا بتوقيف ثلاثة أشخاص، ومن ثم قدمت كينيا اعتراضًا أمام المحكمة قائلة أنها الأولى
بالتحقيق، وأن قضاء المحكمة قضاء مكمل وليس رئيس، ومن ثم أصدر قضاة المحكمة قراراً
بخصوص المسألة وجاء فيه ما يأتي:
·
إن قضاة
المحكمة يعرفون أن موضوع وفكرة مبدأ التكاملية ما بين المحكمة والقضاء الوطني تعتبر
من المبادئ لسيادة الدول...، وأن الدول لها الحق في ممارسة الاختصاص الجنائي على الأفراد
الذين يشتبه في ارتكابهم جرائم تقع أيضًا في اختصاص المحكمة... وإذا لم تحقق الدولة
في الجرائم؛ فإن المحكمة يجب أن تمارس اختصاصها حسب الشروط المنصوص عليها في المواد
(17-20) من نظام روما...، [حتى الفقرة (52) قال القضاة في قرارهم في قضية كينيا]: "إن كينيا تحاول أن توحي لقضاة المحكمة أنها
تقوم بالتحقيق في الجرائم المرتكبة ضد الأشخاص المطلوبين للمحكمة، ولا توجد أي ضمانات
أن كينيا تقوم بذلك... وإن الحجج التي ساقتها دولة كينيا في هذه القضية تضع الكثير
من الشكوك على رغبة دولة كينيا في التحقيق ومقاضاة الأشخاص المطلوبين للمحكمة"(
[5]
).
·
وهذا
يعني أن كل تحقيق صوري شكلي غير جدي سوف لن يمر أمام القضاة، وحيث إن الجرائم التي
ارتكبت في فلسطين مثل التي ارتكبت في قطاع غزة لا تسقط بالتقادم، فبعد انضمام دولة
فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، وقبولها باختصاصها، أن تطلب التحقيق في الجرائم
التي ارتكبت في الحرب على غزة أو ملف الاستيطان وخصوصاً أن في كليهما مستندات
وتقارير وقرارات دولية وأن تقدمها للمحكمة وتطلب فتح تحقيق بصفتها دولة عضو ، وإذا
ما قامت إسرائيل بالاعتراض أمام المحكمة بعدم اختصاص المحكمة؛ لأن إسرائيل قامت بالتحقيق
وأنشأت لجنة مختصة، فإن قضاة المحكمة من المرجح بأنهم سيرفضون هذه الحجج؛ لأن التقرير
الذي نشر من قبل لجنة التحقيق الإسرائيلية مخالف للواقع وغير جدي، ويبين عدم رغبة وجدية
إسرائيل في محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم في قطاع غزة.
توصيات:
- لا بد من توفر قرار سياسي واضح وشفاف حول التعاطي مع محكمة
الجنايات الدولية وغيرها من المحاكم الدولية. إن غياب الإرادة السياسية الحقيقية
والجادة يفقد الجهود الأخرى قيمتها، ويترك أثرا سلبيا لدى النشطاء والمحبين للقضية
الفلسطينيين.
- لابد من إعادة تشكيل الهيئة الوطنية المكلفة بمتابعة
موضوع المحكمة الجنائية الدولية لتكون برئاسة وعضوية قضاة وقانونيين بعيدين عن
السياسة وحساباتها وأن تكون بصلاحيات واسعة تهدف فقط لمقاضاة المجرمين وتحقيق
العدالة وتطالب بحقوق الضحايا وذويهم.
- وأن تعمل هذه الهيئة على
وضع نظام داخلي يحدد صلاحياتها وطبيعة عملها يعرض على المجلس التشريعي لإقراره.
- لا بد من وجود استراتيجية فلسطينية تهدف إلى الاستكثار
من آليات وعمليات المساءلة الدولية والمشتركة بين الدول بما يخفف العبء السياسي
على كاهل المدعي العام المضطر إلى التعامل مع أحد أكثر النزاعات تسييسًا في
العالم. إن سعي فلسطين للتصديق على
المعاهدات الدولية يتيح طائفة من الآليات والعمليات، كتلك المتاحة بموجب معاهدات
اليونسكو ومنظومة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. غير أن هناك الكثير من العمل
اللازم فعله من أجل اغتنام الفرص التي يتيحها هذا المسعى.
- ينبغي إطلاع عامة الناس على مجريات الأمور. فرغم تنظيم حلقات عمل واجتماعات على طاولةٍ
مستديرةٍ لا يزال عامةُ الجمهور مغيبين
إلى حدٍ كبيرٍ بشأن الوضع الراهن، وقد تباينت التصريحات الرسمية الفلسطينية بشأن
هذه المسألة.