في الذكرى الـ77 للنكبة من 1948 إلى 2025: أطول جريمة تهجير في التاريخ الحديث 15 أيار 2025

يُحيي الفلسطينيون في مختلف أنحاء العالم، في الخامس عشر من أيار/مايو من كل عام، ذكرى النكبة التي حلت بهم عام 1948، حين تحوّلت بلادهم إلى ساحة لجرائم تطهير عرقي وتهجير جماعي. ففي ظل الانتداب البريطاني وتواطؤ القوى الاستعمارية، تعرض أكثر من 800,000 فلسطيني من أصل 1.4 مليون للتهجير القسري من قرابة 1,300 مدينة وقرية، نحو الضفة الغربية وغزة والدول العربية المجاورة والعالم. وقد سيطر الاحتلال على 774 تجمعاً سكانياً، ودمر 531 منها، وارتكب أكثر من 70 مجزرة أدّت إلى استشهاد نحو 15,000 فلسطيني. هكذا بدأت مرحلة جديدة من المعاناة الفلسطينية، تمثلت في حرمانهم من حقهم في العودة، وفي ترسيخ منظومة استعمارية مدعومة دولياً.

لم تكن النكبة حدثاً عابراً في الماضي، بل هي مستمرة بصور متعددة حتى يومنا هذا، عبر سياسات التهجير، والاستيطان، والتمييز العنصري، التي تسعى إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وطمس هويتهم الوطنية.

أولاً: التهجير القسري في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة

في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، لا يبدو التهجير القسري مجرد ذكرى تاريخية، بل واقعًا متجددًا يعيد مأساة الفلسطينيين إلى الواجهة. فقد شكّلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي اندلعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، مرحلة مفصلية في السياسات الاستعمارية القائمة على الإفراغ الممنهج للأرض، ورفض حق الفلسطينيين في العودة.

منذ الأيام الأولى للحرب، صدرت تصريحات عن مسؤولين سياسيين وعسكريين إسرائيليين عبّرت صراحة عن نية تهجير السكان الفلسطينيين من القطاع، وتحويل النزوح الجماعي إلى سياسة دائمة. وقد برز هذا التوجه في دعوات وزيري حكومة الاحتلال بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير إلى إعادة إحياء الاستيطان في غزة، كمقدمة لحسم ديمغرافي واسع النطاق (1).

وقد وثّق مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان (OHCHR) إصدار قوات الاحتلال أوامر "إخلاء إلزامية" شملت مساحات واسعة من قطاع غزة، دون توفير بدائل آمنة أو ضمانات قانونية، معتبراً أن هذه الأوامر لا تفي بمتطلبات القانون الإنساني الدولي، لا من حيث ظروف النقل، ولا من حيث الحماية، ولا من حيث تأمين الاحتياجات الأساسية مثل المأوى والتغذية والرعاية الطبية. وأشار المكتب إلى أن المدنيين أُجبروا مراراً على النزوح داخل القطاع، في ظل خطر دائم يهدد حياتهم وحياة أسرهم (2).

وفي الضفة الغربية، تُنفَّذ سياسة موازية من التهجير القسري، خصوصاً في مناطق "ج" الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية التامة، حيث تواصل سلطات الاحتلال هدم المنازل والمنشآت المدنية، ومصادرة الأراضي، وحرمان الفلسطينيين من تراخيص البناء. وقد أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية(OCHA) بأنه خلال عامي 2023 و2024، تم هدم أكثر من 1,000 منشأة فلسطينية، وتهجير مئات الأسر، خاصة في الأغوار الشمالية ومسافر يطا، ضمن محاولات إسرائيلية لتحويلها إلى مناطق عسكرية مغلقة (3).

أما القدس الشرقية، فتشهد بدورها حملة إخلاء ممنهجة في عدد من الأحياء مثل الشيخ جراح وسلوان والعيسوية وبيت صفافا. وتعتمد السلطات الإسرائيلية على أدوات قانونية ملتوية وجمعيات استيطانية تدّعي ملكية عقارات فلسطينية، بهدف استبدال السكان الأصليين بمستوطنين. وقد أكدت منظمات حقوقية دولية، بينها HRWوAmesty ، أن هذه السياسات تمثل نمطاً من التهجير القسري المحظور بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، وترقى إلى جريمة حرب، خاصة في ظل غياب سبل الانتصاف القضائي الفعالة أمام المحاكم الإسرائيلية (4).

ثانياً: مشاريع الاستيطان

شهدت عمليات الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، تصاعدًا غير مسبوق خلال العام 2024، سواء من حيث بناء المستوطنات الجديدة أو توسيع القائم منها. ورافق ذلك تصعيد ممنهج في هدم منازل الفلسطينيين دون تصاريح بناء – وهي تصاريح ترفض سلطات الاحتلال منحها في معظم الحالات – بهدف تفريغ الأرض واستبدال السكان الأصليين بمستوطنين إسرائيليين.

وقد صرّح مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، بأن سياسة الاستيطان الإسرائيلية وما يرتبط بها من عمليات ضم فعلية وتشريعات تمييزية تشكّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، تمامًا كما قضت محكمة العدل الدولية في فتواها الاستشارية بشأن الجدار العازل عام 2004. وأكد تورك أن نقل إسرائيل لأعداد من سكانها المدنيين إلى الأراضي المحتلة يُعدّ جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، داعياً إلى وقف فوري وكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية، وإخلاء المستوطنين، ومحاسبة مرتكبي الاعتداءات من المستوطنين وقوات الاحتلال على حد سواء (5).

وأضاف المفوض أن على إسرائيل أيضاً تقديم تعويضات عن الأضرار الناجمة عن عقود من الاستيطان غير القانوني، مشددًا على أن انتهاج هذه السياسات يقوّض حق الفلسطينيين في تقرير المصير ويُكرّس منظومة تمييز عنصري ممنهجة.

وفي بيان صدر بتاريخ 9 أيار/مايو 2025، أعربت اللجنة الخاصة المعنية بالتحقيق في الممارسات الإسرائيلية عن "قلق بالغ إزاء تسارع وتيرة مصادرة الأراضي الفلسطينية، وتكريس منظومة استعمارية تسعى إلى السيطرة التامة على الأرض والسكان". واعتبرت اللجنة أن ما يجري "قد يمثل نكبة جديدة"، محذّرة من أن السياسات الراهنة تشمل أنماطاً ممنهجة من القتل العشوائي، والاختفاء القسري، والتطهير العرقي، بما يعزز ممارسات الفصل العنصري على الأرض (6).

ثالثاً: حق العودة في ظل التحديات الحالية

منذ نكبة عام 1948، ظلّ حق العودة حجر الزاوية في قضية اللاجئين الفلسطينيين، التي تمثل واحدة من أقدم الأزمات السياسية والإنسانية غير المحسومة في التاريخ الحديث. فعلى إثر العمليات العسكرية التي قادتها العصابات الصهيونية آنذاك، دُمّرت مئات القرى الفلسطينية، وهُجّر سكانها قسرًا إلى مناطق مجاورة داخل وخارج فلسطين. وبالرغم من الضغوط الصهيونية لمنع عودتهم، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 194 (د/3) في 11 كانون الأول/ديسمبر 1948، والذي نصّ في فقرته الـ11 على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم الأصلية، والتعويض لمن لا يرغب بالعودة (7).

وعلى مدار العقود اللاحقة، أُعيد تأكيد هذا الحق في عدد كبير من القرارات الدولية والمواثيق الحقوقية الملزمة، منها:

  • اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين في زمن الحرب (12 آب/أغسطس 1949)، التي تنص في مادتها 49 على حظر "النقل الجبري، الجماعي أو الفردي، للأشخاص المحميين"، كما تحظر نفيهم من الأراضي المحتلة "أياً تكن الدواعي"؛ علمًا أن إسرائيل طرف موقّع على الاتفاقية (8).
  • الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، الذي يكرّس في مادته 13 "حق كل إنسان في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه"، كما تحظر مادته 17 "تجريد أحد من ملكه تعسفا (9)
  • العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، الذي صادقت عليه إسرائيل في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1991، وينص في مادته 12، الفقرة 4، على أن "لا يجوز حرمان أحد، تعسفًا، من حقه في الدخول إلى بلده (10).

ورغم هذا الإطار القانوني الواضح، الذي يؤكد الطابع الملزم لحق العودة، تواصل إسرائيل التنكّر لهذا الحق، ليس فقط عبر منعه على المستوى العملي، بل أيضًا من خلال مواصلة سياسات التهجير، ومصادرة الأراضي، والتوسع الاستيطاني، بما يشكّل إمعانًا في تكريس الواقع الاستعماري القائم على الطرد والإحلال.

رابعاً: الخلاصات

تؤكد المعطيات الميدانية والحقوقية أن ما تشهده الأراضي الفلسطينية، وبخاصة قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، يُعدّ أكبر موجة تهجير قسري منذ نكبة عام 1948، إذ بلغ عدد المهجّرين داخليًا أكثر من 1.9 مليون فلسطيني داخل غزة وحدها، فضلًا عن تهجير آلاف آخرين في الضفة الغربية نتيجة سياسات الهدم والمصادرة.

وقد استخدم الاحتلال الإسرائيلي الحصار والمجاعة كسلاح حرب بشكل ممنهج، من خلال منع دخول المساعدات الإنسانية وفرض قيود قاسية على الغذاء والدواء، ما أدى إلى مجاعات موثقة ووفاة العديد من المدنيين، لا سيما من الأطفال وكبار السن، في انتهاك مباشر لاتفاقيات جنيف ومبدأ عدم تعريض السكان المدنيين للتجويع كوسيلة من وسائل القتال.

كما تبيّن بوضوح اعتماد إسرائيل على منظومة مركبة من الأدوات القانونية والعسكرية والإدارية لفرض سياسات التهجير، لا سيما في مناطق "ج" بالضفة الغربية والقدس الشرقية، حيث تُستغل المحاكم الإسرائيلية لشرعنة دعاوى الإخلاء التي تقدّمها الجمعيات الاستيطانية ضد السكان الفلسطينيين، في ظل غياب الحماية القضائية الفعلية.

يُضاف إلى ذلك التدمير الواسع للبنية التحتية في غزة، حيث تشير التقديرات إلى تدمير أكثر من 70% من المنازل والمرافق المدنية، بما يشمل المستشفيات، والمدارس، وشبكات المياه والصرف الصحي، ما ينذر بكارثة إنسانية طويلة الأمد تمسّ مقومات الحياة الأساسية.

خامساً: التوصيات

بمناسبة الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، وفي ظل استمرار الجرائم والانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني، تدعو المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) إلى ما يلي:

1. محاسبة الاحتلال الإسرائيلي أمام المحاكم الدولية، وخصوصاً محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، عن الجرائم المرتكبة، بما فيها القتل الجماعي، والتهجير القسري، والتعذيب، والاعتقال التعسفي.

2. مطالبة مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بالتحرّك العاجل لرفع الحصار المفروض على قطاع غزة، باعتباره جريمة حرب وانتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، والعمل على ضمان الوصول الفوري وغير المشروط للمساعدات الإنسانية.

3. الدعوة إلى وقف شامل لكل الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، بما يشمل تفكيك المستوطنات غير القانونية، ووقف هدم المنازل، ومصادرة الأراضي.

4. الضغط من أجل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، خاصة ما يتصل بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى قراهم ومدنهم الأصلية، وفق القرار 194، باعتباره شرطًا لا غنى عنه لتحقيق أي تسوية عادلة.

5. دعوة الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين، وخصوصاً في لبنان، إلى احترام الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين، والتأكيد على أن رفض التوطين لا يبرر المسّ بهذه الحقوق الأساسية، التي يكفلها القانون الدولي لحقوق الإنسان.


 

المراجع

1. تصريح كل من سموتريتش وبن غفير حول ضرورة "العودة إلى غزة" والاستيطان فيها نُشر في أكثر من مصدر، منها صحيفة تايمز أوف إسرائيل بتاريخ 10 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

2. OHCHR, "Israel/OPT: UN experts deplore large-scale forced displacement of Palestinians in Gaza”, United Nations Human Rights Office, 13 December 2023. https://www.ohchr.org/en/press-releases/2023/12/israelopt-un-experts-deplore-large-scale-forced-displacement-palestinians

3. OCHA, "West Bank Demolitions and Displacement | January–December 2023", United Nations OCHA OPT, January 2024. https://www.ochaopt.org

4. Amnesty International, "Israel’s apartheid against Palestinians: Cruel system of domination and crime against humanity”, February 2022; Human Rights Watch, "A Threshold Crossed: Israeli Authorities and the Crimes of Apartheid and Persecution”, April 2021.

5. United Nations Human Rights Office (OHCHR), "UN High Commissioner: Israel’s settlement policies constitute war crimes and must end”, Statement by Volker Türk, 27 April 2024. https://www.ohchr.org

6. UN Special Committee to Investigate Israeli Practices, "Statement on the human rights situation in the occupied Palestinian territory”, 9 May 2025.

7. UN General Assembly, Resolution 194 (III), "Palestine — Progress Report of the United Nations Mediator”, 11 December 1948. https://undocs.org/en/A/RES/194(III)

8. Geneva Convention IV Relative to the Protection of Civilian Persons in Time of War, 12 August 1949, Article 49. https://ihl-databases.icrc.org

9. Universal Declaration of Human Rights, Articles 13 and 17, adopted 10 December 1948. https://www.un.org/en/about-us/universal-declaration-of-human-rights

10. International Covenant on Civil and Political Rights, Article 12(4), adopted 16 December 1966, entered into force 23 March 1976. https://www.ohchr.org/en/instruments-mechanisms/instruments/international-covenant-civil-and-political-rights