الـعـلاقات الفلـسـطينيـة – اللـبنـانيـة

الـعـلاقات الفلـسـطينيـة – اللـبنـانيـة
الاستاذ هشام دبسي، مدير مركز الخدمات الصحفية


عام 48 لجأ إلى لبنان نحو مائة ألف فلسطيني وهذا معروف. ما ليس معروف جيداً هو أن نحو مائة ألف لبناني أيضا عادوا من فلسطين إلى وطنهم بعد أن فقدوا هناك مورد رزقهم. وهذا له دلالة على العلاقات الفلسطينية - اللبنانية قبل عام 48 كما له تداعيات بعد ذلك.
ويكفي أن نذكر أن لبنان فتح ثلاث قنصليات في المدن الفلسطينية الكبرى مثل القدس ويافا وحيفا حيث نشأت سوق عمل كبيرة مرتبطة بحركة الجيوش البريطانية في فلسطين في فترة ما بين الحربين بالإضافة إلى ازدهار الاقتصاد الفلسطيني في تلك الفترة.
لمعرفة دلالات هذا الشأن وتداعياته على العلاقات اللاحقة لا بد من دارسة وافية وبحث موضوعي لتلك الحقبة. لا تتسع لهما هذه المداخلة.
كما أشير إلى أن السلطات اللبنانية المتعاقبة حتى أواخر الستينات، أي قبيل انفجار المخيمات على إيقاع بنادق الثورة الفلسطينية، قد بنت سياستها على أن هؤلاء اللاجئين لن يعودوا سريعاً أو في مدى منظور إلى وطنهم. وهذا ليس استنتاجاً متسرعاً نظراً لأن السلطات اللبنانية لم تتأثر في الخمسينات والستينات بكل مقولات الفكر القومي العربي وتالياً فإن أسلوب تفكيرها وإنتاجها للسياسة خلا من أوهام ذلك الخطاب التحريري.
هذا ما يدفعني لاعتقاد غير جازم بأن السلطات اللبنانية في تلك الفترة أدركت كنه المعادلة الإقليمية والدولية وقبلت بما يُشبه حالة توطين مؤقت للاجئين الفلسطينيين في المخيمات تحت مسؤولية وكالة الأونروا مما رسخ منطق استقالة الدولة من التزاماتها حيال اللاجئين باستثناء الالتزام الأمني وضبط الوضع العام من دون إغفال عملية التجنيس البطيئة التي شملت بعض الشرائح ذات المواصفات الخاصة (الاقتصادية والدينية) سواء بمراسيم نشرت في الجريدة الرسمية أو لم تنشر.
هكذا أقام اللاجئون الفلسطينيون في لبنان بصفتهم تجمعاً بشرياً من الدرجة الثانية لا مرجعية له سوى جهاز الأمن أو مديرية شؤون اللاجئين الملحقة بوزارة الداخلية بينما افتقد الفلسطيني مرجعيته الخاصة سواء كانت سياسية أو نقابية أو اجتماعية. لقد "نجحت" السلطات اللبنانية في تلك المرحلة في صوغ علاقة أحادية من طرف واحد مع التجمع الفلسطيني الفاقد للمرجعية وفي أحسن الأحوال فإن شؤون هذا التجمع عولجت من فوق رأسه وبمعزل عنه مع وكالة "الأونروا" أو في المحافل الرسمية العربية والدولية.
 
اتـفـاق الـقـاهـرة:
شكل "اتفاق القاهرة" المبرم عام 1969 بين السلطة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية علامة فارقة في العلاقات الثنائية، إذا أصبح ممكناً الحديث عن علاقة ثنائية نظراً لوجود طرف فلسطيني رسمي أو شبه رسمي معترف به. لكن التدقيق في بنود الاتفاق يُظهر بوضوح طغيان البعدين العسكري والأمني الخاصين بمعالجة الوجود المسلح الفلسطيني في الجنوب وضبط الحالة الأمنية في المخيمات المنتشرة فوق سائر الأراضي اللبنانية.
وبدراسة متأنية لنص الاتفاق نستنتج إن الدولة اللبنانية ممثلة بقائد الجيش اللبناني آنذاك قدمت تنازلاً أساسيا يمس بشكل مباشر سيادتها على جزء من أراضيها (المخيمات) كما اعترفت بوجود التشكيل المسلح الفلسطيني إلى جانب قواتها العسكرية وهذا ما يدفع المرء إلى اعتبار "اتفاق القاهرة" اتفاقاً فرضته معادلات اللحظة المحيطة به وليس خياراً لبنانياً رسمياً. إلا أن المفيد في الأمر الآن هو المراجعة السريعة لواقع العلاقات الفلسطينية مع لبنان دولة وشعباً في تلك الحقبة لاستخلاص أهم دروسها.
هنا يمكن القول أن نهج الكفاح المسلَّح وحرب التحرير الفلسطينية، انطلاقاً من دول الطوق، بما في ذلك الدور المتصوَّر لدول الطوق في تلك الحرب، لم يكن نظرية فلسطينية خالصة ولا خاصة، بل كان من نتاج الفكر القومي السائد في تلك المرحلة التي شهدت الهزيمة الحزيرانية واحتدام الحرب الباردة بين القطبين الدوليين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي). وقد وفّرت معادلات الحرب الباردة كثيراً من أسباب التقدم والنجاح لحركات التحرر الوطني في العالم، بما فيها حركة التحرر الفلسطيني التي حظيت بشرعية دولية إضافة لشرعيتها الشعبية العارمة على الصعيدين العربي والفلسطيني. إذا أضفنا إلى تلك العناصر الموقف الضمني (والمعلن أحياناً) للاتجاه القومي السائد آنذاك من الكيانات السياسية الصغيرة، والذي يُنكر عليها حقها في الوجود أصلاً باعتبارها وليدة اتفاقات "سايكس – بيكو"، فإن التجاوز الفلسطيني على السيادة اللبنانية يصبح "من طبيعة الأمور". والاستنتاج هنا للتفسير وليس للتبرير. فالطرف الفلسطيني الموقّّع على "اتفاق القاهرة" لم يكن يستوعب جيداً منطق الكيانية والسيادة والدولة والقانون، بل كانت تغلب عليه طبيعته الثورية التي تُغريه بتجاوز القانون إذا كان هذا التجاوز ممكناً ويخدم الهدف النضالي في نظره. (لم يطبق شعار "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية" في لبنان، وطبِّق قسراً في الأردن وسوريا وسائر البلدان العربية).
لذا تجسد مفهوم العلاقات مع لبنان من الجانب الفلسطيني في محورين:
المحور الأول: بناء شبكة علاقات حزبية متينة مع القوى والأحزاب اللبنانية الداعمة لنظريات حركات التحرر الوطني تحت مسميات مختلفة (جبهة المشاركة – تحالف الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية) وامتدت شبكة العلاقات إلى شرائح مهمة من الشعب اللبناني التي انتمت للثورة الفلسطينية كأفراد وجماعات.
المحور الثاني: اعتبار "اتفاق القاهرة" صيغة تؤمن الشرعية للعمل الفلسطيني دون التزام نصه وروحه ودون مراجعته مع الدولة اللبنانية مع السعي المتواصل لانتزاع الاعتراف الرسمي من الدولة اللبنانية بالكيانيه الفلسطينية السياسية (م.ت.ف) عبر مقررات الجامعة العربية والأمم المتحدة. هذا من دون حوار جدّي بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير، لا بل اتسمت العلاقات الرسمية بالكثير من الفتور والانقطاع خلال عقد السبعينات والثمانينات إلى أن شكل الاجتياح الإسرائيلي للبنان منعطفاً حاسماً في إعادة صياغة العلاقات الفلسطينية – اللبنانية.
على تلك الخلفية، اتسمت العلاقات الفلسطينية – اللبنانية بالتعقيد الشديد، إذ أفرزت الحرب الأهلية اصطفافاً جديداً على مستوى الأحزاب وتضاؤلاً مستمراً لدور الشرعية اللبنانية بلغ حد التغييب في فترة تصاعد حدة القتال. وبالرغم من وجود مكتب منظمة التحرير في بيروت ووجود لجان ارتباط مع الدولة اللبنانية تمارس بعض أعمالها إلا أن كل ذلك لم يكن يعني شيئاً كثيراً في الواقع حيث تجاوزت الأحداث كل هذه الصيغ بشكل لم تعد معه صالحة للاستمرار. لذا لم يستغرب احد انهيار كل تلك الصيغ الناظمة للعلاقات الفلسطينية - اللبنانية تحت وقع الاجتياح الإسرائيلي عام 82 حيث طال الانهيار أيضا شبكة العلاقات الحزبية والشعبية مع القوى والأحزاب التي شكلت عماد التحالف السابق على الرغم من استمرار بعض أشكالها التحالفية الضعيفة الذي استوجبه استمرار الصراع الداخلي في لبنان.
 إن لحظة انكشاف تلك العلاقات في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي ادخل فلسطينيي لبنان في حقول ألغام صعبة. فما إن يعبر اللاجئون الفلسطينيون حقلاً حتى تنفتح أمامهم حقول ألغام جديدة. ولا داعي للشرح هنا إذ أن مجزرة صبرا وشاتيلا والحرب على المخيمات وعودة القوات المسلحة الفلسطينية إلى شرق صيدا بعد السيطرة على تلة مغدوشة تكفي لقياس صعوبات تلك المرحلة.
لقد بدا الأمر بين عامي 82 – 87 من بعض جوانبه تكراراً هزلياً لمأساة سابقة لم يسلم منها احد وشكلت خسارة صافية للجميع. وهذا ما تدل عليه الأرقام والإحصاءات التقديرية لحجم الشهداء والجرحى والمعتقلين وكذلك حجم الدمار الرهيب المتنقل مع انتقال محاور الصراع.
في هذا السياق شكلت انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987 نقطة ضوء ايجابية في نهاية نفق تلك المرحلة حيث اتجهت معظم الأطراف اللبنانية والفلسطينية نحو التهدئة واستعادة العلاقات تدريجياً على المستويين الشعبي – الحزبي والرسمي. وبدأت العلاقات بالتشكل من جديد لكن مع الأخذ بعين الاعتبار كل ما شهده لبنان من أحداث وتطورات أسفرت عن تحول في معادلة الوضع الداخلي وتمحوره حول مركز ثقل سياسي وعسكري وأمني جديد جسده دور سوريا في هذا البلد حيث لم يعد بالإمكان التقدم خطوة واحدة في العلاقات الفلسطينية – اللبنانية بمعزل عن هذا الدور الاستثنائي والفاعل.
 

اتفاق الطائف واتفاق اوسلو
في الطائف وضعت الحرب اللبنانية أوزارها، وبدأ المجتمع اللبناني يتجه بقوة نحو السلم الأهلي. واندرج الوضع الفلسطيني تحت عنوان جديد نص عليه اتفاق الطائف هو رفض التوطين. لكن الاتفاق لم يقل شيئاً آخر حول تنظيم العلاقة مع الفلسطينيين في لبنان الأمر الذي فتح على أكثر من قراءة لمقولة رفض التوطين، تلك المقولة القابلة للتفسير وفق برامج القوى والأحزاب واتجاهاتها الفكرية والسياسية وحسب موقعها على خريطة الصراع السياسي الداخلي الذي استمر بقوة رغم اتفاق الطائف. وفي هذا السياق أتى تشريع البرلمان اللبناني الأول المنبثق عن اتفاق الطائف منسجماً مع نفسه عندما اصدر قراراً بإلغاء "اتفاقية القاهرة" حيث اعتبره بعض النواب مجرد تصحيح لخطأ سابق.
إلى ذلك كان هنالك جملة قوانين وإجراءات ضيقت الخناق على حياة الفلسطينيين كما اصدر مجلس النواب قراراً أضافيا يمنع على الفلسطيني تملك أي شقة سكنية أو عقار صغير. وقد ترافقت تلك القوانين مع جملة إجراءات غير مقوننة مثل منع إدخال مواد الإعمار إلى المخيمات والقيود المستمرة على حركة السفر والتنقل. هذه الإجراءات تمت تحت يافطة من الشعارات "الداعمة للنضال الفلسطيني" والشعارات التي تخوّن الاتجاه الرئيس في الحركة الوطنية الفلسطينية لما أقدم عليه من توقيع على اتفاق اوسلو. إن الفلسطيني الذي أيد ودعم اتفاق الطائف وقدم تفسيره الخاص لمقولة رفض التوطين وحدد مطالبه المتواضعة عبر العديد من المذكرات وجلّها يدور حول القضايا الإنسانية والمدنية وحق النضال الديمقراطي السلمي من اجل تطبيق القرار 194 الخاص بحق العودة، هذا الفلسطيني قدّم للبنان دولة وشعباً وأحزابا ما هو أثمن من كل مطالباته المتواضعة. لقد قدم إلى لبنان اتفاق اوسلو نفسه.
كيف ذلك ولماذا؟
لان اتفاق اوسلو نقل مركز النضال الوطني إلى داخل الأرض الفلسطينية ما يعني انسحاباً استراتيجياً من لبنان وغيره من دول الطوق وبما يعني زوال أي مشروع فلسطيني خاص سواء داخل لبنان أو غيره من الدول العربية. بهذا المعنى فإن الاتجاه الفلسطيني الثابت نحو انجاز تسوية تاريخية على قاعدة الدولتين كما أقرها المجلس الوطني عام 1988مكن الفلسطيني للمرة الأولى في تاريخ نضاله المعاصر من خلق الوقائع التي تجعل استقلاله وبناء دولته ممكناً رغم الاعتراض الإسرائيلي. وهذا بدوره نقل الفكر السياسي الفلسطيني إلى مرحلة جديدة من المفاهيم المتعلقة بالسيادة والاستقلال تقترب تدريجياً نحو النضج باتجاه منطق الدولة سواء لجهة الوعي أو السلوك أو لجهة صياغة العلاقات بالآخرين من الدول والمنظمات الكبرى والقوى الفاعلة.
إن الوعي السياسي الفلسطيني في هذه المرحلة يغادر مقولة "الحق القومي" في استخدام الأرض العربية منطلقاً للكفاح المسلح ويؤسس لسلوك أكثر واقعية يقوم على التفاهم مع الدول العربية على الحد الممكن للتنسيق والعمل المشترك على قاعدة احترام خيارات تلك الدول واحترام سيادتها وقوانينها. وفي هذا المعنى فإن النضال الديمقراطي الفلسطيني في لبنان، من أجل الحقوق المدنية والإنسانية ومن أجل حق العودة، لا يجوز أن يصطدم مع المصلحة الوطنية اللبنانية كما لا يجوز توظيفه في الصراع الداخلي اللبناني. في هذا السياق أتت تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس أثناء زيارته الرسمية الأخيرة للبنان تعبيراً عن هذا التطور في نظرية العلاقات الفلسطينية – العربية حين أكد على حق الدولة اللبنانية في بسط سيادتها على المخيمات وعلى ضرورة امتثال اللاجئ الفلسطيني في لبنان للقانون والعدالة على قاعدة الحقوق والواجبات التي تنص عليها كل المواثيق الدولية واللبنانية ذات الصلة بوضع اللاجئين.
كما أن زيارة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح والمكلف بالشأن الفلسطيني في لبنان عباس زكي في صيف هذا العام أحدثت نقلة نوعية في إعادة صياغة العلاقات الفلسطينية – اللبنانية كان ابرز ملامحها أنها شهدت وللمرة الأولى حواراً سياسياً مباشراً بين الشرعيتين الفلسطينية واللبنانية عبر قنوات رسمية سياسية، كما شهدت انفتاحاً شاملاً على كل القوى والأحزاب والطوائف اللبنانية لكن هذه المرة على قاعدة عمل جديدة تتجاوز منطق التحالفات والجبهات المشتركة لتؤكد على العلاقات الرسمية وعلى الانسحاب الفلسطيني الكامل من كل إشكال الصراع أو الحراك السياسي الداخلي في لبنان.
إن هذه المفاهيم الجديدة لصوغ العلاقات الفلسطينية – اللبنانية تشكل حجر الأساس لإعادة بنائها بما يخدم مصلحة الطرفين وبما يساعد على مواجهة الاستحقاقات الإقليمية والدولية المتعلقة بالعملية السياسية او بتأمين حق العودة للاجئين الفلسطينيين عامة وفي لبنان خاصة.