من يفك قيود القانون الدولي؟

 

من يفك قيود القانون الدولي؟

الدكتور محمود الحنفي

1.لماذا هذا البحث؟

يحاول هذا البحث الإجابة عن تساؤل كبير وهو من يفك قيود القانون الدولي؟ وذلك من خلال:

1.إظهار أهمية القانون الدولي في حفظ الأمن والاستقرار الدوليين وإقامة علاقات الود والتعاون لمواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه البشرية، وكذلك المخاطر الهائلة في وجود شريعة الغاب.

2.إظهار أهمية ومدى تأثير الولايات المتحدة في الساحة الدولية وقدرتها في إنفاذ القانون الدولي.

3.البحث عن أهم أسباب عرقلة تطبيق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومدى مساهمة الولايات المتحدة بهذا الخصوص، مع التركيز على القضية الفلسطينية كمعيار.

4.إبراز أهم التحديات التي تواجه عملية إصلاح الأمم المتحدة كمدخل هام لإعمال القانون الدولي، وذلك بعد سلسلة إخفاقات على مستوى حفظ الأمن والسلم الدولين خصوصافي منطقة الشرق الاوسط.

2.ما هو القانون الدولي، وما هي أهم محطات تطوره.

 

تعريف القانون الدولي العام: هو مجموعة من القواعد الخاصة، والتي يجب أن تلتزم بها الدول أثناء تعاملها معاً. ويهدف إلى تنظيم العلاقات بين الشعوب المختلفة على نحو أمثل، بحيث يحتوي على قواعد قانونية، تتحكم بطبيعة تعامل أفراد المجتمع الدولي، والعلاقات القائمة بينهم.
إن تطور القانون الدولي مستمر منذ ظهور التجمعات الإنسانية. وقد كان الرومان مثل الإغريق يعتقدون بتفوقهم على باقي الشعوب، ويحق لهم السيطرة على الشعوب التي تعاديهم، لذا كانت علاقتهم مبنية على الحرب مع باقي الشعوب الأخرى. إن المسائل المتعلقة بالقانون الدولي العام لم تكن بارزة في المجتمعات القديمة، لأنّه لم يكن هناك أي مساواة بين الشعوب، كما لم يكن يوجد دول مستقلة بسبب تسلط شعب معين على الشعوب الأخرى.

 

· بعد التطور الذي طرأ على القوانين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، انقسمت أوروبا إلى فريقين، الأول يدعم الولاء للكنيسة، والثاني ينادي بالاستقلال عن الكنيسة، وبالتالي فقد نشبت حرب الثلاثين عاماً، والتي نتج عنها معاهدات وستفاليا سنة 1648، والتي كانت سبباً لظهور الدول التي تتمتع بالسيادة ولا تخضع لأي سلطة عليا.

· من أهم مبادئ معاهدة وستفاليا والتي رسخت قواعد في العلاقات الدولية:

oتطبيق قانون التوازن الدولي للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.

oظهور فكرة المؤتمر الأوروبي والذي يتألف من الدول الأوروبية المختلفة، والذي كان بهدف تنظيم شؤونهم وبحث مشاكلهم.

oالميل نحو تدوين القواعد القانونية الدولية التي كانت قد اتفقت عليها الدول في تنظيم علاقاتها المتبادلة.

إن الشكل الحالي الذي يسير عليه القانون الدولي يمثل الحد الأدنى من الطموح، أي الحد الأدنى من التعاون الدولي في التنمية، وحفظ الأمن والاستقرار.وتقف أمام تطبيق القانون الدولي عقبات كبيرة جدا ناتجة عن تراكمات نشأت أساسا مع نشأة الامم المتحدة، وأخرى مرتبطة برغبة دول كبيرة، مثل الولايات المتحدة، بإبقاء الوضع على ما هو عليه.

وينقسم القانون الدولي العام إلى عدم فروع منها القانون الدولي البحري، القانون الدولي الجوي، القانون الدولي الاقتصادي، القانون الدولي لحقوق الإنسان، القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي الجنائي..إلخ.

3.أهمية الولايات المتحدةعلى مستوى العالم

الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، ولها مصالح تمتد إلى جميع بقاع الأرض وقدرة على التدخل في كافة أرجاء العالم.

يكاد الناتج المحلي الداخلي للولايات المتحدة (21.4 ترليون دولار) أن يعادل ربع المجموع العالمي، أما ميزانيتها الدفاعية لعام 2020 فقد بلغت 732 مليار دولار، أي أنها تعادل الإنفاق الدفاعي لمجموعة دول كبيرة بأكملها من بينها الصين وروسيا.

تأسست الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة ثورة قام بها المستوطنون الأوروبيون البيض ضد التاج البريطاني. وأسس الدستور الأمريكي الذي سن في عام 1787 لنظام اتحادي يتضمن فصلا للسلطات لم يتغير جذريا منذ ذاك الوقت.[1]

والولايات المتحدة هي منبع الانترنت في العالم.

يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة الأميركية حتى منتصف عام 2020حوالي 330 مليون نسمة ما يشكل حوالي 4.27% من إجمالي سكان العالم، وهي الثالثة بعد الصين 1,439,323,776 والهند 1,380,004,385[2].

تبلغ مساحتها: 9.8 مليون كيلو متر مربع.

4.شواهد تؤكد على أن الولايات المتحدة تعيق تطبيق القانون الدولي:

من خلال المعطيات السياسية والإقتصادية الهائلة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، ثمة شواهد تؤكد أنها تعيق تطبيق القانون الدولي، بل وتجعله رهينة لمصالحها ومصالح الاحتلال الإسرائيلي، بغض النظر عن الأضرار البالغة التي أصابت المنظومة الدولية بأكملها وعلى رأسها الأمم المتحدة؟

أولا: الولايات المتحدة تعيق تطبيق القانون الدولي من خلال:

أ‌.مجلس الأمن الدولي

يعتبر مجلس الأمن هو الذراع الأقوى للأمم المتحدة، والأداة الأبرز لتكريس هيمنة القوى العظمى، وفرض إرادتها على دول العالم الثالث. من أهدافه الحفاظ على السلم الدولي، وحل النزاعات، وفرض احترام القانون الدولي، لكن هل ساعدت الولايات المتحدة في احترام القانون الدولي؟

شكلت القضية الفلسطينية المعيار الذي يمكن أن تقاس عليه أحكام القانون الدولي لجهة احترامه أو عدم احترامه. وشغلت القضية الفلسطينية المكان الأبرز في اجتماعات ومداولات مجلس الأمن الدولي؛ وما زالت هذه القضية الأكثر تداولا في أروقة الأمم المتحدة، منذ قرار التقسيم 181 في 29 نيسان 1947 وحتى يومنا هذا. وبنظرة متأنية نلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية، وهي إحدى الدول الخمس التي تتمتع بحق النقض الفيتو، كانت وما زالت تقف عائقًا أمام اتخاذ مجلس الأمن الدولي العديد من القرارات التي من شأنها أن تعزز مكانة القانون الدولي، وتقف إلى جانب الحق الفلسطيني. وأجضهت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 44 مشروع منذ عام 1973 وحتى يومنا هذا من خلال استخدامها حق النقض ووقفت إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي.

ب‌.الجمعية العامة:

يتمتع أعضاء الجمعية العامة في الأمم المتحدة والبالغ عددهم 193 دولة بالمساواة بغض النظر عما إذا كانت الدولة كبيرة أم صغيرة. وقد لا تتاح الفرصة للولايات المتحدة للتأثير الكبير على أعضائها، وهذا يتيح هامش واسع للدول الأعضاء للتعبير عن إرادة المجتمع الدولي بشكل أفضل. صحيح أن قرارات الجمعية العامة ليست ملزمة مثلما هي حال قرارات مجلس الأمن الدولي إذا ما صدرت بموجب الفصل السابع من الميثاق، لكنها تحمل قيمة أدبية وسياسية كبيرة وتشكل رأيا هاما للاستناد عليه في ظروف كثيرة. وتمثل الجمعية العامة للأمم المتحدة البرلمان الدولي، فيما يحتفظ مجلس الأمن حصرا بالسلطة التنفيذية.

وفي حين أن مجلس الأمن، الذي يضم (خمسة) أعضاء دائمين لهم حق النقض (الفيتو)، يتمتع بمركز متميز، يعكس المنطق الواقعي لآلية الأمم المتحدة، فإن الجمعية العامة، مع عضويتها المتساوية، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومحكمة العدل الدولية، تجسد الروح الليبرالية للمنظمة، وثمة تنازع بين هذين المنطقين.

أصدرتالجمعية العامةللأمم المتحدةعدة قرارات وصفت بأنها لصالحالقضية الفلسطنية، وظلتالولايات المتحدةفي معظم الأوقات فاقدة لتأييدالأغلبيةخلال الاجتماعات التي اتخذت فيها تلك القرارات.

ومن تلك القرارات على سبيل المثال لا الحصر القرار الشهير رقم A/ES-10/L.22 في 21 كانون الأول 2017 حين صوتت الجمعية العامة على قرار يرفض أي إجراءات لتغيير الوضع في القدس، وهو ما يعني رفض القرار الأميركي اعتبار المدينة المقدسة عاصمة لإسرائيل.

ومن مجموع 193 دولة في الجمعية العامة، أيدت 128 القرار الذي قدمته اليمن وتركيا بالنيابة عن المجموعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وصوتت ضد القرار تسع دول، هي الولايات المتحدة وإسرائيل وتوغو وغواتيمالا وهندوراس وجزر مارشال وميكرونيزيا وبالاو وناورو.

ثانيا: الانسحاب من اتفاقيات وهيئات دولية هامة:

أ‌.منظمة اليونيسكو:

في تشرين الأول 2017، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أنها أبلغت "إيرينا بوكوفا"، المديرة العامة للمنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، قرارها الانسحاب من المنظمة الأممية.

وقالت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان، إن الولايات المتحدة لم تتخذ هذا القرار بسهولة، وإن القرار يعكس قلق الولايات المتحدة تجاه ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في المنظمة، وتجاه استمرار الانحياز ضد إسرائيل في اليونسكو".

وكانت الولايات المتحدة قد توقفت عن تمويل اليونسسكو بعد أن صوتت المنظمة لمصلحة إدراج فلسطين عضوا فيها عام 2011، لكن وزارة الخارجية الأمريكية احتفظت بمكتب لها في مقر المنظمة بباريس.

واعتمد المجلس التنفيذي لـ "اليونسكو" في 18 تشرين الأول الماضي، قرار "فلسطين المحتلة" الذي نص على "وجوب التزام إسرائيل بصون سلامة (المسجد الأقصى / الحرم الشريف) وأصالته وتراثه الثقافي وفقا للوضع التاريخي الذي كان قائما، بوصفه موقعا إسلاميا مقدسا مخصصا للعبادة".

ب‌.اتفاقية باريس للمناخ:

في الأول من حزيران 2017، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من "اتفاقية باريس" للمناخ، معللا ذلك بأن الاتفاقية "ظالمة" لبلاده".

وقال في مؤتمر صحفي عقده بالبيت الأبيض "من أجل أداء واجبي في حماية أمريكا وشعبها، فإننا سنخرج من اتفاقية باريس، ولكن سنبدأ مفاوضات حول إمكانية التوصل إلى اتفاق جديد يكون أكثر عدلا".

ج. وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا):

حسمت إدارة الرئيس الأميركيدونالد ترامبموقفها من الأونروا وقررت يوم 31 آب 2018، وقف التمويل كليًا عن وكالةالأمم المتحدةلغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وكان التمويل الأميركي للوكالة يمثّل سابقًا ثلث ميزانيتها السنوية البالغة 1.24 مليار دولار، وهو ما أثر جذريًّا على حياة ملايين اللاجئين الفلسطينيين في مناطق العمل الخمسة (لبنان، الأردن، سوريا، قطاع غزة والضفة الغربية)

وتأسست وكالة الأونروابقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949، لتقديم المساعدة والحمايةلحوالي 6 ملايين من اللاجئين الفلسطينيين في مناطق عملياتها الخمس، وهي: الأردن، وسوريا، ولبنان، والضفة الغربية، وقطاع غزة.

د. مجلس حقوق الإنسان

تأسس مجلس حقوق الإنسان عام 2006. ويعمل على توفير الرقابة -غير المُلزمة- والمساءلة على انتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، ويتكون من 47 دولة، يتم اختيارها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتكون عضويتهم لمدة ثلاث سنوات وفقًا لنظام الحصة المقررة التي تسعى إلى تكريس التوازن الجغرافي في عضوية المجلس.:

انسحبت الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان في 20/7/2018. وأعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ومندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي آنذاك، انسحاب بلديهما من مجلس حقوق الإنسان، بعد يوم واحد فقط من توجيه مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان زيد رعد بن الحسين، انتقادات غير مسبوقة للولايات المتحدة. كما جاء القرار على خلفية اتهام إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للمجلس بأنه ينتهج الانحياز المعادي لإسرائيل،.

وتركزت انتقادات مجلس حقوق الإنسان على سياسات الهجرة التي انتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بحق المهاجرين بطريقة غير شرعية وتسليم اطفالهم إلى مراكز العناية بالأطفال، والتي قد تؤدي إلى عمليات طرد جماعي للمهاجرين، وهو ما يشكل انتهاكا للقانون الدولي.

وبعد انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان شكر رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قائلاً: إن إسرائيل تشكر الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، والسفيرة هالي، لهذا القرار الذي يتسم بالشجاعة ضد أكاذيب مجلس حقوق الإنسان.

واعتبر انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان نكسة للعدالة الدولية، بعد أن كان يُنظر إليها على أنها رائدة عالمية في قضايا مثل حقوق الإنسان وكونها قوة اقتصادية وعسكرية وثقافية كبيرة. صحيح أن هناك دول ذات وزن اقتصادي وسياسي هام على مستوى العالم مثل دول الاتحاد الأوروبي وكندا وغيرها، إلا نه بدون تدخل الولايات المتحدة الإيجابي سيظل مجلس حقوق الإنسان غير قادر على محاسبة منتهكي حقوق الإنسان.

ومن المهم التذكير أن قرارات مجلس حقوق الإنسان تحمل صفة أدبية وسياسية ولا تحمل صفة إلزامية.

هـ . الميثاق العالمي للهجرة

في ديسمبر 2017، قررت الولايات المتحدة الانسحاب من المفاوضات الأممية بشأن الميثاق العالمي للهجرة، الذي أقرته منظمة الأمم المتحدة بالإجماع تحت اسم «إعلان نيويورك للاجئين والمهاجرين» بهدف تحسين ظروف اللاجئين والمهاجرين، وكانت 193 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تبنت الإعلان في سبتمبر 2016.

و. منظمة الصحة العالمية

ازدادت انتقادات الرئيس الأمريكي السابق لمنظمة الصحة العالمية، في ظل انتشار فيروس كورونا، محملًا إياها بجانب الصين مسؤولية انتشار الفيروس، واتهمها بالتأخر في التصدي للفيروس.

وفي يوليو 2020، أعلن ترامب انسحابه من منظمة الصحة العالمية. يذكر أن الولايات المتحدة عضو مؤسس في المنظمة الأممية التي تأسست عام 1948، وحتى اللحظة فواشنطن عضو بالمنظمة، حيث إن القرار يستغرق عامًا ليدخل حيز النفاذ.

وأثار قراره انتقادات واسعة، وتعهد الرئيس جو بايدن، في تغريدة له على «تويتر» بأنه سيلغي قرار ترامب من اليوم الأول لتسلمه السلطة حال فوزه في الانتخابات.

خامسا: عشرات الاتفاقات الثنائية للإفلات من العقاب:

اتخذت الولايات المتحدة في 15/3/2019 قرارا برفض منح تأشيرات لموظفي المحكمة الجنائية الدولية[3]. ويعتبر مثل هذه الإجراء امرا خطيرا حيث أنه سيعيق المساءلة عن جرائم دولية خطيرة. وعزا وزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو هذا القرار على أنه جاء لحماية مواطنين اميركييين من تحقق محتمل قد تقوم به محكمة الجنايات الدولية وكذلك لمنع تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية ضد مواطني دول حليفة للولايات المتحدة.

يبدو أن التحرك الأمريكي جاء نتيجة للتحقيق المحتمل للمحكمة الجنائية الدولية في أفغانستان والذي قد ينظر في سلوك جنود أميركيين هناك، والتحقيق المحتمل في فلسطين والذي من المرجح أن يشمل سلوك مسؤولين إسرائيليين.

أوضحت الولايات المتحدة الأمريكية في أيار 2002، انطلاق العمل بقانون روما الأساسي، بأنها تخطط لسلوك نهج جديد يقضي بشن حملة على نطاق العالم بأسره لتقويض قدرة المحكمة الجنائية الدولية على ممارسة ولايتها القضائية على مواطني الدول غير الأطراف المتهمين بالإبادة الجماعية وبجرائم ضد الإنسانية أو بجرائم حرب فوق أراضي الدول الأطراف في قانون روما الأساسي.

وقد صاحب هذا النهج تهديدات بقطع المعونة العسكرية عن أي دولة طرف في قانون روما الأساسي لا تدخل في اتفاقية للإفلات من العقاب مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد وقعت الولايات المتحدة الأميركية اتفاقية ثنائية مع 96 دولة، واتخذت الاتفاقية أشكالا متعددة.

الأصل وقبل أن تعقد الولايات المتحدة اتفاقيات ثنائية للإفلاد من العقاب أن يكون لديها تشريع يشتمل على كل جريمة يشملها قانون روما الأساسي، ويحدد مبادئ المسؤولية الجنائية والدفاع بطريقة تتساوق بشكل تام مع القانون الدولي، وأن ينص على الولاية القضائية بشأن مثل هذه الجرائم لمحاكمها المدنية.

وتهدف الولايات المتحدة من هذه الاتفاقيات الثنائية إلى الإفلات من العقاب من خلال منع مواطني الولايات المتحدة والأشخاص المرتبطين بهم، وكذلك مواطني الدولة الثانية والأشخاص المرتبطين بهم، بما في ذلك الشهود الخبراء منهم، من أن يتقدموا بشهاداتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية. ومن هنا فإن هذه الاتفاقيات الثنائية يمكن أن تعرقل العدالة الدولية ضد مرتكبي الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.

إن عدد من الدول قد رفض الدخول في هذه الاتفاقيات بالرغم من الضغوط المكثفة. ومن هذه الدول كندا، هولندا، النرويج، سويسرا، ويوغوسلافيا، وجميعها دول أطراف في قانون روما الأساسي.

لكن في المقابل هناك العديد من الدول قد خضعت لضغوط الولايات المتحدة حتى الآن ووقعت معها على اتفاقيات للإفلات من العقاب، بيد أن كثير من هذه الاتفاقيات لم تنل مصادقة البرلمانات الوطنية لهذه البلدان بعد. وهناك عدد من الدول يتعرض لتهديد خاص كدول في الاتحاد الأوروبي، أو الدول التي تقدمت بطلبات للانضمام إلى عضوية الناتو، أو الدول التي تتمركز فيها قوات للولايات المتحدة الأمريكية في إطار عمليات حفظ السلام أو محاربة الإرهاب...

ومن المهم التذكير أن هذه الاتفاقيات التي تهدف إلى الإفلات من العقاب تتناقض مع المادة 98 (2) من قانون روما الأساسي، ومع القانون الدولي. إن الغرض الوحيد من هذه الاتفاقيات الثنائية هو منع المحكمة الجنائية الدولية من مباشرة ولايتها القضائية.

إن الدول التي تمضي قدما دستوريا في الاتفاقيات تكون قد تصرفت بصورة من شأنها أن تخرق التزاماتها الدولية بموجب القانون الدولي وكذلك أن تحبط هدف قانون روما الأساسي وغرضه وهو تحقيق العدالة الجنائية الدولية ضد جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية.

ثالثاً: تصنيف حركات تحرر وطني على أنها منظمات إرهابية يخالف قواعد القانون الدولي

إن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال يأتي من جملة من الحقائق والاستنتاجات القانونية والأخلاقية والسياسية المبنية على واقع الاحتلال وممارساته القمعية وانتهاكاته للقانون من جهة، وعلى واقع الفلسطينيين في الوقت الحالي، الذي يمارس حقه الشرعي في تقرير المصير، من جهة أخرى، فضلاً عن تاريخ نشوء القضية الفلسطينية والظلم الذي وقع على هذا الشعب من قبل.

وقد اعترفت حكومات الدول الحليفة بشرعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الألماني، وكذلك اعترفت حكومات الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي وبريطانيا بحركة المقاومة الفرنسية المسلحة بتاريخ 27 آب/ أغسطس 1944. وأكد عدد كبير من الفقهاء أن المقاومة المسلحة للشعوب الأوروبية هي نتيجة منطقية وحتمية للاحتلال العسكري الألماني، وأن عمليات المقاومة ضد سلطات الاحتلال هي دفاع عن النفس والوطن في وجه تعسف الاحتلال وتجاوزه لمبادئ القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949[4].

وقد تأكد مفهوم الحق تقرير المصير وازداد وضوحاً في ما بعد من خلال النص عليه في العديد من قرارات الأمم المتحدة والإعلانات الصادرة عن الأجهزة والهيئات الدولية المختلفة:

· يُعدّ قرار الجمعية العامة رقم 1514/ د ـ 15 الصادر في 14/12/1960 والمعنون بـ(إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة)[5] أحد إسهامات الأمم المتحدة الأبلغ أثراً في تطوير مفهوم تقرير المصير وفي إدانة الاستعمار بجميع أشكاله والتعجيل بتصفيته، حيث جاء فيه: إن الجمعية العامة تعلن "لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي".

· ثم أوضحت المادة الأولى من العهدين الدوليين لحقوق الإنسان[6]، اللذين اعتمدتهما الجمعية العامة وعرضتهما للتوقيع والتصديق في قرارها رقم 2200/ د - 21 والصادر بتاريخ 16/12/1960م، المضمون القانوني لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بتقرير أن (1 ـ لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي إلى تحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، 2 ـ لجميع الشعوب سعياً وراء أهدافها الخاصة التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية، ولا يجوز في أية حال حرمان أي شعب أسبابَ عيشه الخاصة...)[7].

منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، صدرت عدة قرارات عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تنصّ على حق حركات التحرر الوطني "باستخدام جميع الوسائل الضرورية من أجل الاستقلال"، منها القرار رقم ((xxv/2621 والقرار ((xxv1/2878والقرار رقم (xxv111/3163) والكفاح المسلح في القرار رقم (xxv111/3070)[8].

اعترفت الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطنية كأول حركة تحرر وطني تحصل على مركز المراقب في الأمم المتحدة. وقد أخذت المنظمة منذ يوم 22/11/1974 تمارس دورها كمراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها والمؤتمرات المنبثقة عنها.

ولعله من المفارقات أن تحصل منظمة التحرير على هذه الصفة بعد حرب 1973 بين العرب وإسرائيل، حيث انتصر العرب في تلك الحرب.

يتولى وزير الخارجية ووزير الخزانة الأمريكية بالتعاون مع وزير العدل، تقديم الأدلة والبيانات إلى الكونغرس الذي بدوره يوافق أو يعترض على تصنيف المنظمة أو الجماعة في لائحة الإرهاب وفقاً للمادة (219) من قانون الهجرة والجنسية الأمريكي.

ولكي يتم تصنيف أي جهة كمنظمة إرهابية، يجب أن تكون أجنبية ومنخرطة في أنشطة إرهابية، وتشكل أنشطتها تهديداً للأمن القومي الأمريكي أو أمن مواطني الولايات المتحدة.

في عام 1984، حظر الكونغرس الأمريكي على الموظفين الحكوميين أي اتصال أو تفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية إلا إذا اعترفت المنظمة بحق اسرائيل في الوجود وبتطبيق قراري الأمم المتحدة 242 و338 ونبذ العنف. وفي عام 1987 اعتبر الكونغرس الأمريكي منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية.

ورغم أن رئيساللجنة التنفيذية بمنظمة التحريرآنذاك الرئيس الراحل ياسر عرفاتقام بالاعتراف رسميابإسرائيل عام 1993، في رسالة رسمية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاكإسحق رابين، في المقابل اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل شرعي وحيدللشعب الفلسطيني، الا أن ذلك لم يمنع الضغط والابتزاز الأميركي.

وفي عام 2017، وبعد أن أصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، أغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بسبب تصريحات مسؤولين فلسطينيي تعهدوا بملاحقة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية بسبب جرائمها ضد الفلسطينيي.

وتشترط الإدارة الأميركية على الفلسطينيين في مقابل السماح بعمل مكتب منظمة التحرير في واشنطن بأن يتوقفوا عن ملاحقة إسرائيل في محكمة الجنايات الدوليةوالدخول معها في مفاوضات مباشرة.

كما صنفت الولاياتت المتحدة معظم حركات المقاومة الفلسطينية بصفتها حركات إرهابية. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد أدرجت حركة المقاومة الإسلاميةحماس 1997 على لائحة الإرهاب الأميركية. يذكر ان حركة حماس اعتمدت استراتيجية الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وغالبا ما تستند التصنيفات الأميركية لاعتبارات سياسية، بما يخالف في معظم الأحيان قواعد آمرة في القانون الدولي، أكثر من كون هذه الدول أو المنظمات تشكل تهديدا للأمن القومي الأميركي فعلا. ولم تصنف الأمم المتحدة المنظمات الفلسطنية التي تسعى للحق في تقرير المصير على أنها منظمات إرهابية.

رابعاً: الأمم المتحدة مدخل هام لاحترام القانون الدولي، من يعيق إصلاحها؟

في صيف عام ١٩٤٥، قطعت الدول المؤسِّسة للأمم المتحدة على نفسها عهدًا بأن تجعل العالم مكانًا أفضل. فهل استطاعت الأمم المتحدة تحقيق هذا الهدف.ويعتبر التعاون بين الدول مبدأ أساسيا لتأسيس الأمم المتحدة". فهل كرست الأمم المتحدة نفسها كحارس للسلم والأمن الدوليين، وراعٍ لحقوق الإنسان، وحامٍ للقانون الدولي؟

لقد تقلص دور الأمم المتحدة بعد انهيار الثنائية القطبية بتفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين واعتماد الولايات المتحدة الأميريكية على طرقها الخاصة للسيطرة على الوضع الدولي الجديد، بحيث أصبح النفوذ الأميركيواضحا من خلال قدرة أمريكا على فرض رؤيتها على المنطقة الدولية بما ينسجم والرغبة الأميركية الانفرادية في السيطرة على العالم.

لم تفض اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المتكررة إلى حلول مجدية تنهي النزاعات المستمرة والحروب المفتوحة على أكثر من جبهة . ولأن العالم بحاجة إلى مؤسسات دولية تحفظ الاستقرار الدولي، فإن ذلك يستدعي ذلك إصلاح الأمم المتحدة. غير أن هذا الإصلاح يحتاج بدوره إلى إصلاح النظام العالمي المختل، من نظام قائم على الأحادية القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب.

ويقترح دبلوماسيون سابقون ومسؤولون في الأمانة العامة للأمم المتحدة إعادة تشكيل مجلس الأمن عبر السماح بضم عدد أكبر من الدول لعضويته، بالإضافة إلى إصلاح نظام العضوية والتصويت.

لكن إن كانت الولايات المتحدة الأميركية هي القوة العالمية الرائدة والممول الرئيسي لمنظومة الأمم المتحدة( 22 % من الموازنة العامة للأمم المتحدة و 27 % من مهمات حفظ السلم)، فهل يمكن أن تكون هناك إصلاحات خارج إرادتها، أو تتعارض مع مصالحها؟

يرى بعض المحللين أنه مخطئ جدا من يعتقد أن أميركا تريد إلغاء الأمم المّتحدة والمنظمات الدولية، وهو ما ذهب إليه عدد كبير من المحللين والكتاب . إن بقاء الأمم المّتحدة والمنظمات الدولية هو مصلحة أميركية بالدرجة الأولى، طالما أن قوة أميركا الكبيرة تخولها تجاوز هذه المنظمات متى ما تشاء والعودة إليها عندما تحتاجها.

خامساً: الولايات المتحدة الأميركية وعرقلة تطبيق القانون الدولي الإنساني على الأراضي الفلسطينية المحتلة:

إن هناك نظاماً قانونياً متكاملاً يتعلق بتفعيل قواعد المسؤولية الدولية في مواجهة الدولة التي ترتكب جرائم دولية، وهو ما ينطبق على حالة الاحتلال الاسرائيلي بامتياز، الذي ارتكب مختلف أنواع الجرائم الدولية المعروفة، من عدوان ترافق مع احتلال وضم، إلى انتهاك فجّ لاتفاقيات جنيف وقواعد لاهاي المنظمة لحالة الاحتلال الحربي، وصولاً إلى حدّ ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المواطنين العرب. وبرغم ذلك، لم يجرِ تفعيل أيٍّ من صور المحاسبة والجزاء في مواجهة إسرائيل، رغم كل ما ارتكبته وترتكبه حتى الآن.ويعود ذلك بصورة أساسية إلى تمتع إسرائيل بمظلة حماية أميركية تقيها الخضوع لقواعد القانون الدولي وتحرّرها من التزام مبادئ الشرعية الدولية وقيمها؛ فالفيتو الأميركي والدعم السياسي والاقتصادي والعسكري كانا دوماً لا يشكّلان فقط حماية لها من إعمال قواعد المسؤولية الدولية ضدها، بل أيضاً دافعاً نحو ارتكاب المزيد من الجرائم الدولية وتشجيعاً على التمسك بموقفها الرافض لتطبيق قرارات الأمم المتحدة. وهي سياسة تطرح إشكالية مساءلة الولايات المتحدة الأميركية نفسها لعدم تحمّل مسؤولياتها كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن ولعدم التزامها ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة في ما يتعلق بردع المعتدي وعدم مساعدته.

إن موقف الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية يستند إلى عوامل عديدة منها العامل الأيديولويجيوإلى حجم المصالح الاقتصادية والعسكرية بين الطرفين، ويستند إلى حجم المساهمة المالية في موازنة الأمم المتحدة، الذي يصل إلى 22% من إجمالي مساهمات الدول الأخرى[9].

في ردّها على توسيع المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية المحتلة، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عدداً من القرارات في عام 1999، تدعو فيها إلى عقد اجتماع للأطراف السامية المتعاقدة للبحث في الإجراءات الكفيلة بإجبار إسرائيل على تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. إن مسألة ما إذا كانت إسرائيل تنتهك الاتفاقية أو لا، وما إذا كانت الاتفاقية تنطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد حُسمت في السابق، والهدف الوحيد للمؤتمر هو اتخاذ قرار بشأن التطبيق.

ولكن بضغط من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين قاطعتا المؤتمر،تأجّل المؤتمر بعد مرور 15 دقيقة على انعقاده دون اتّخاذ أية إجراءات لتطبيق الاتفاقية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. واستغلّت الحكومات مسألة عدم وجود نزاع مفتوح على الأرض، وحجة "إعطاء فرصة للسلام" لتبرير هذا التسييس الفاضح للقانون الإنساني الدولي، وهو ما شكّل إحباطاً كبيراً للمجتمع المدني العالمي.

وبعد تصاعد اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين والانتهاكات المنظّمة لاتفاقية جنيف الرابعة في أواخر عام 2000، دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة سويسرا إلى "التشاور في تطورات الوضع الإنساني في الميدان، وفقاً للبيان الذي تم تبنّيه في 15 تموز 1999 في مؤتمر الأطراف السامية المتعاقدة على الاتفاقية، بهدف ضمان احترام الاتفاقية في كافة الظروف حسب المادة الأولى من المعاهدات الأربع.وفي شهر تشرين الأول 2001، وبعد أكثر من عام من المماطلة، دعت الحكومات أخيراً إلى عقد مؤتمر للأطراف السامية المتعاقدة في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر 2001[10].

وتبرز أهمية ذلك المؤتمر في أن الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة لم تجتمع مطلقاً منذ عام 1949 لمناقشة تطبيق الاتفاقية على الأرض. والأهم من ذلك أن هذا المؤتمر كان من المنتظر أن يقدم بداية تطبيق آليات الإلزام بالمعاهدة لجهة مسؤولية جميع الأطراف المتعاقدة لضمان عدم خرق أية دولة موقعة لبنود تلك الاتفاقية.

نجحت الجمعية العامة في اتخاذ قرار يدين التصرفات الإسرائيلية في القدس ويدعو إلى عدم بناء تلك المستوطنة (مستوطنة جبل أبو غنيم في القدس)، وذلك في قرارها رقم 51/223 تاريخ 13 آذار/ مارس 1997 بأغلبية 133 صوتاً.

إن التمنع الأميركي على فرض القانون الدولي الإنساني كجزء من عملية السلام بحجة تعقيده للمفاوضات والعقبات التي يمكن أن تؤدي إلى تأخير أو فشل عملية السلام، ذلك التمنع هو الذي أدى فعلاً إلى موت عملية السلام.

ويُعَدّ الموقف الأميركي موقفاً متناقضاً مع نفسه؛ فالولايات المتحدة كانت قد وقّعت اتفاقية جنيف عام 1949، وأعلنت بذلك خضوعها للاتفاقية واقتناعها بإلزاميتها، حيث تطلب الاتفاقية من الدول الموقعة احترامها وضمان احترامها[11]. كذلك ساندت الولايات المتحدة 24 قراراً لمجلس الأمن تؤكد جميعها صلاحية اتفاقية جنيف الرابعة للتطبيق في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكن بالمقابل، عارضت بشدة جميع محاولات الأمم المتحدة لانتقاد سجل إسرائيل الأسود في حقوق الإنسان، وكذلك نقضت بواسطة حق النقض العديد من مشاريع قرار مجلس الأمن التي تطالب إسرائيل بالخضوع للقانون الدولي.

والمفارقة العجيبة أيضاً، أنّ الولايات المتحدة، الدولة الأقوى في عالم اليوم، كانت قد صدّقت على قرارات مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967 و338 لعام 1973 وعلى القرار 271 لعام 1969 القاضي بإبطال الأعمال الخاصة بتغيير وضع القدس ويدعو إسرائيل الى التقيّد باتفاقية جنيف لعام 1949 والقانون الدولي، والقرار 672 لعام 1990 الذي يدين ارتكاب القوات الإسرائيلية أعمال العنف في الحرم القدسي الشريف يوم 8/10/1990، ويطلب من إسرائيل الوفاء بالتزاماتها ومسؤولياتها القانونية المقررة في اتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين زمن الحرب، التي تنطبق على الأراضي المحتلة عام 1967، وكذلك القرار 446 لعام 1976 الخاص بالاستيطان في الأراضي المحتلة، الذي عدّ كل السياسات والممارسات الإسرائيلية بإنشاء المستوطنات غير جائزة وسواها من القرارات الأخرى، إلا أنها عملت كل ما بوسعها لمنع تنفيذها، وحالت دون قيام الأمم المتحدة بأية خطوات لا تحظى بموافقة إسرائيل ورضاها. لقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أكثر من 150 مرة لحماية إسرائيل من قرارات مجلس الأمن الدولي، وهددت عشرات المرات باستخدامه ضد أية إدانة لها، وإذا ما عجزت فإنها تعمل على تخفيف لهجة القرارات الأخرى الصادرة عن الأمم المتحدة. إن حصانة إسرائيل ضد العقوبات الدولية تعود في الأساس إلى موازين القوى داخل هيئة الأمم المتحدة، وعلى المستوى الدولي، وازدواجية المعايير التي تُطبَّق في هذا المجال أثناء التعامل مع إسرائيل من ناحية، والعرب من ناحية أخرى[12].

ولذلك فالحديث عن أن استحضار القانون الدولي وبحث القضية في أروقة الأمم المتحدة من الممكن أن يؤدي إلى الإضرار بالعملية السلمية، حديث لا يملك من الصدقية الكثير، بقدر ما يعبّر عن حالة الانحياز، وعدم الرغبة الأميركية، وفي أحيان كثيرة عدم القدرة في الضغط على إسرائيل، بسبب الحسابات والتوازنات الداخلية الأميركية.

خلاصة القول

1. القانون الدولي العام هو مجموعة من القواعد الخاصة، والتي يجب أن تلتزم بها الدول أثناء تعاملها معاً، ويهدف إلى تنظيم العلاقات بين الشعوب المختلفة على نحو أمثل. وتطور القانون الدولي مستمر منذ ظهور التجمعات الإنسانية. ولكن هناك عقبات كبيرة جدا تقف أمام تطبيق القانون الدولي، ناتجة عن تراكمات نشأت أساسا مع نشأة الأمم المتحدة، وأخرى مرتبطة برغبة دول كبيرة، مثل الولايات المتحدة، بإبقاء الوضع على ما هو عليه.

2. غني عن القول أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، ولها مصالح تمتد إلى جميع بقاع الأرض وقدرة على التدخل في كافة أرجاء العالم وهي تمتلك من أدوات التأثير ما يجعلها قادرة على تطبيق القانون الدولي لوأرادت ذلك.

3. يعتبر مجلس الأمن الذراع الأقوى للأمم المتحدة، من أهدافه الحفاظ على السلم الدولي، وحل النزاعات، وفرض احترام القانون الدولي. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية كانت وما زالت تقف عائقًا أمام اتخاذ مجلس الأمن الدولي العديد من القرارات التي من شأنها أن تعزز مكانة القانون الدولي، في أكثر من موضع منها ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

4. لا تتاح الفرصة الكاملة أمام الولايات الأميركية لتطويع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي البرلمان الدولي، بسبب أن الأعضاء والبالغ عددهم 193 عضوا لديهم فرصة متساوية في التصويت، بعكس مجلس الأمن. لكن من المهم معرفة أن قرارات الجمعية العامة لا تحمل صفة إلزامية بعكس ما قد يصدر عن مجلس الأمن بموجب الفصل السابع إيجابا أو سلبا.

5. إن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقيات وهيئات دولية يعتبر انتكاسة للقانون الدولي ولمسار الأمم المحتدة بأكملها. هذا القرار الأميركي يقوض الجهود الدولية لجعل العالم أكثر استقرارا وأكثر تعاونا وأكثر قدرة على مواجهة التحديات الهائلة التي تواجه البشرية (المناخ، اللاجئون، المهاجرون، الأوبئة والأمراض المعدية...).

6. إن انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان، بسبب انتقاده سلوك الولايات المتحدة بموضوع المهاجرين، وبسبب انتقاد إسرائيل بسبب سجلها الاسود في موضوع انتهاك حقوق الفلسطينيين، يشكل انتكاسة لمنظومة حقوق الإنسان الدولية، وذلك لسببين هامين اولهما أن الولايات المتحدة هي الدولة الأهم في العالم وثانيها أن انسحابها يشجع على المزيد من القتل والتشريد والحروب.

7. إن توقيع الولايات المتحدة عشرات الاتفاقات الثنائية لعدم وضع جنودها أمام مساءلة العدالة الجنائية الدولية يشجع دون شك دول أخرى على ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب كما يقوض جهود محكمة الجنايات الدولية في فتح تحقيق في جرائم وعدم تمكينها من مباشرة ولايتها القضائية. كما يوجد حالة من الإحباط لدى ذوي الضحايا.

8.تصنيف حركات تحرر وطني على أنها منظمات إرهابية يتعارض مع قواعد القانون الدولي ويدفع للتطرف والإرهاب الحقيقي. ومع أن الجمعية العامة قد أصدرت عدة قرارات تنصّ على حق حركات التحرر الوطني "باستخدام جميع الوسائل الضرورية من أجل الاستقلال". إلا أن الولايات المتحدة تقوم بتصنيف المنظمات أو الجماعات في لائحة الإرهاب استنادا إلى اعتبارات سياسية.

9.الأمم المتحدة هي مدخل هام لاحترام القانون الدولي. وحقيقة الأمر أن اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المتكررة لم تفض إلى حلول مجدية تنهي النزاعات المستمرة والحروب المفتوحة على أكثر من جبهة. ولأن العالم بحاجة إلى مؤسسات دولية تحفظ الاستقرار الدولي، فإن ذلك يستدعي إصلاح الأمم المتحدة. لكن إن كانت الولايات المتحدة الأميركية هي القوة العالمية الرائدة والممول الرئيسي لمنظومة الأمم المتحدة، فهل يمكن أن تكون هناك إصلاحات خارج إرادتها، أو تتعارض مع مصالحها؟

10.إن تطبيق القانون الدولي الإنساني على الاراضي الفلسطينية المحتلة هو المعيار الواضح لمدى احترام القانون الدولي. ومن خلال البحث تبين لنا أن الولايات المتحدة الأميركية تعرقل عمليا تطبيق القانون الدولي الإنساني على الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولم يعد خافيا على أحد أن دولة الاحتلال الإسرائيلي قامت بارتكاب العديد من الجرائم الدولية المعروفة بداية بالاحتلال الحربي، وصولاً إلى حدّ ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المواطنين العرب، وبرغم ذلك لم يجرِ تفعيل أيٍّ من صور المحاسبة والجزاء في مواجهتها. ويعود ذلك بصورة أساسية إلى تمتع دولة الاحتلال بمظلة حماية أميركية تقيها الخضوع لقواعد القانون الدولي وتحرّرها من التزام مبادئ الشرعية الدولية وقيمها.

الدكتور محمود الحنفي

1/3/2021



[3] https://www.hrw.org/ar/news/2019/03/16/328215#

[4] لماذا المقاومة الأوروبية شرعية وسواها غير شرعي، انظر:

http://www.qudsway.net/Links/Felisteenyiat/9/Html_Felisteenyiat9/treoris+estshhad/shohda&05.htm

[5] G.A.Res.No. 1514 (Sees - 15 - 1960).

[6] والمقصود بذلك العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

[7] G.A.Res.No. 2200 (Sess - 21 - 1966).، راجع موقع الأمم المتحدة على الإنترنت: www.un.org

[8] د. السيد مصطفى أبو الخير، المعابر الفلسطينية رؤية قانونية، مجلة شؤون خليجية، مركز الخليج للدراسات، القاهرة العدد (53) ربيع 2008، ص 30-31.

[10] راجع ورقة موقف للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان وجمعية القانون حول مؤتمر الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة، 29/12/2001، على الرابط الآتي: http://www.pchrgaza.org/portal/ar/index.php?option=com_content&view=article&id=5284:2010-01-04-10-04-26&catid=111:2009-12-29-09-28-10&Itemid=241

[11] تنص المادة الأولى من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على: "تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال".

[12] إحسان مرتضى، مجلة الدفاع الوطني الصادرة عن الجيش اللبناني، العدد 220، تشرين الأول 2003، يمكن الاطلاع عليها أيضاً على الرابط الآتي: http://www.lebarmy.gov.lb/article.asp?ln=ar&id=2782