معاناة لاجئ مثقف معاناة شعبه...قصة

معاناة لاجئ مثقف معاناة شعبه..قصة

المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) - الخميس 19 كانون الثاني 2006
 
بسمة بين دمعتين الحياة في المخيم تسير رتيبة ثقيلة متباطئة فيها من الحوادث ما إذا أردنا ان نحولها الى أنغام لكانت حزينة حائرة. فيها بعض الابتسامات البعيدة عن القلب بعد المشرقين. فهؤلاء صبية لا يجدون ملعبا يصرفون فيه طاقاتهم الا الأزقة والزواريب، فيتراكضون ويتصايحون ليطل عليهم رجل من شباك بيته: حرام عليكم اريد ان أنام الا يكفيني تعب طول النهار. وهذا ولد يطلب من والديه العيديّة يوم العيد فيقسم الاب: والله ليس معي.. والله ليس معي ثم يجهش بالبكاء. وآه ما اقسى دمعة أب.. في ذلك الموقف.. في يوم عيد. وعندما سأل المعلم في المدرسة احد طلاب صف وليد عن السبب في عدم وجود دفتر حساب معه في حصة الحساب، اجابه الطالب بأن دفتره ضائع وانه ينتظر تقاضي والده اجرته من البستان الذي يعمل فيه لكي يستطيع شراء دفتر. لم يكن وليد يعيش في برج عاجي او في قصر منيف، وهو ابن عائلة عدادها اثنا عشر فردا. والوالد هو معيلها الوحيد يعمل اجيرا في إحدى ورش الليمون. ومع هذا الضيق كان وليد على صغر سنه يشعر مع والده. فكثيرا ما كان يذهب الى مدرسته من دون مصروف. وفي أيام العطل كان يلملم النحاس والالمنيوم من الضواحي ويبيعها لتجار الخردة. وحتى عندما انتقل الى المدرسة الثانوية الرسمية في صور فيما بعد قضى معظم ايام السنة الدراسية يذهب اليها ويعود منها مشيا على قدميه. وهو في الثالثة عشرة من عمره حصل الاجتياح الاسرائيلي وشاهد وليد مع غيره ما تشيب لهوله الولدان. وان ينسى فلا ينسى يوم انزل الجنود الاسرائيليون أخاه الاكبر من السيارة وألقوه ارضا وانهالوا عليه ركلا ولبطا ورفسا.

وعندما اغمي عليه تقدم ضابط كان كأنه خارج لتوّه من جهنم تتساقط الظلمة من وجهه. وكان معروفا باسم ليفي. تقدم وأخذ يدوس رأسه بحذائه العسكري الثقيل قبل أن يُرمى في سيارة عسكرية الى حيث ألوف الاسرى والمعتقلين.
نال وليد الشهادة الثانوية بتفوق ادهش الجميع. ولكن ماذا يفعل، وأبوه لا يستطيع ان يؤمّن له أجرة الطريق فضلا عن تأمين اقساط ومصاريف الجامعة. وفي هذا الليل الأليل العكامس، بزغت نجمة جميلة، صارت تقترب وتقترب.. نزل منها البشير يزف الى وليد البشرى. ان له منحة دراسية على حساب إحدى الجمعيات الخيرية الى احدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي الجنوبية (الاسلامية) وهذه المنحة تعطى كجائزة لأوائل الطلبة. كاد وليد يطير من الفرح، وكانت فرحة اهله اشد، ذلك انهم كانوا يبنون آمالا عريضة عليه. كان وليد في بلاد الغربة موضع احترام وتقدير، لانه كان يجمع مع التفوق المتميز الادب الجم والاخلاق الرفيعة. وفي يوم دعاه احد زملائه ويدعى فكرت الى زيارته في قريته وكانت تبعد مسافة كبيرة عن الجامعة.

رحّب اهل فكرت بوليد أحسن ترحيب وخاصة عندما علموا أنه عربي . سأله ابو فكرت. من أي بلاد العرب انت؟ - من فلسطين. - فلسطين؟! - نعم فلسطين المسجد الاقصى... - فلسطين المسجد الاقصى ، بيت المقدس؟ - طار الرجل اليه مرة ثانية يحتضنه ويشمه ويقبّل يديه على كبر سنّه.
- كان الرجل يردد: بيت المقدس،.. المسجد الاقصى.. يا للفرحة.. يا للحسرة، اتدرون يا أولادي ما بيت المقدس، انها ارض الطهارة والنقاء ولقاء الانبياء. اليوم زارنا الخير وزراتنا البركة. علم اهل القرية بأمر الضيف، فصاروا يتوافدون الى بيت فكرت زرافات ووحدانا لرؤية هذا الزائر النوراني القادم من الاراضي المقدسة. طلب والد فكرت من وليد ان ينهي دراسته ويشرفهم ببقائه عندهم بل عرض عليه ان يزوجه احدى بناته، وكن على قسط وافر من الجمال الاخّاذ.

لكن وليد اعتذر بلباقة حيث انه ما زال امامه شوط كبير لإكمال دراسته. ثم إن هناك واجبا نحو اهله الذين يعيشون ظروفا صعبة في لبنان. لم يرض وليد ان يعود الى أهله الا وهو يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة تاج ملك وإكليل غار. في لبنان بحث وليد كثيرا عن عمل، لكن بطاقة اللاجئين او الملحفة الزرقاء كما يسمونها، كانت تقف دائما عائقا دون ذلك . ومن خلال جدار الضنك الكثيف تفتح له فرجة، ويأتيه من يساعده على توقيع عقد عمل مع شركة تعمل في احدى الدول العربية. وفي الطائرة يتعرف وليد على احد الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الاميركية.. وكان يسمى محمودا. ويطمئن كل الى صاحبه حتى كأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن بعيد. وعندما حطّت الطائرة أرض المطار، وعند ختم الدخول يبرز هذا الفلسطيني الاميركي وثيقته الفلسطينية، فما كان من الضابط المناوب الا أن نظر الى صاحبها شزرا، واخذ يوجّه اليه كلاما فيه كثير من السخرية والاستهزاء. مباشرة يطلب صاحب صاحبنا اتصالا تلفونيا ولم يكونوا يدرون انه يتصل بالسفارة الاميركية.

عشر دقائق كان السفير في المطار، ومن العجب العجاب ان كثيرا من أركان الدولة قد وصلوا قبل وصول السيد السفير، وكأن جن النبي سليمان عليه السلام قد أحضرهم. بينما توقفت حركة المطار وشددت الاجراءات الامنية فيه. عندما رأى محمود السفير قال له: لقد أُهنت اليوم.. فاستشاط السفير غضبا، فأرعد وأزبد، وقرّع وهدد. وكان القوم كأن على رؤوسهم الطير، لم ينبس احدهم بنبت شفه، اللهم الا الاعتذارات الشديدة التي رفضها السفير جملة وتفصيلا. وقبل ان يخرج السفير برفقة محمود، رفع السفير جواز محمود الامريكي وقال لهم: يبدو انكم لم تدركوا بعد ما معنى الجنسية الاميركية .. ايها.. أقيل مدير المطار، والضابط المناوب وتم اعتقالهما. وأصدرت تعليمات جديدة ومشددة الى موظفي المطار تتضمن ضرورة الالتزام بقواعد اللباقة واللياقة والاتكيكت وفن التعامل مع المقامات الرفعية وذلك تحت طائلة المسؤولية. جرت هذه الحادثة امام كل المسافرين الذين كانوا على متن الطائرة مع وليد. لقد اصابتهم الدهشة ولم يدروا انهم في حقيقة أم في خيال.

باشر وليد عمله بكل تفان واخلاص، لا تغادر مخيلته صورة والديه واخوته واخواته ومخيمه القابع مع الوحدة والحسرة المتألمة، والانين الذي يتحول الى صرخات تنقطع ثم تضيع في أودية التناسي والنسيان. لقد آن الاوان ان يرتاح والده بعد دهور من النصب والعنت والمشقّة. بعد ثلاثة اشهر تسلم ادارة المشروع الذي يعمل فيه وليد مدير جديد قالوا إنه من احدى دول اوروبا الغربية. وما ان رآه وليد اثناء زيارة ميدانية له الى ارض المشروع حتى صرخ بطريقة لا شعورية:
ألست انت الضابط الاسرائيلي ليفي الذي كان يقف على مدخل المخيم اثناء الاجتياح الاسرائيلي؟ انك انت بشحمك ولحمك وهذا الجرح القديم في وجهك دليل دامغ على ما أقول. ابتسم ليفي ابتسامة صفراء خبيثة وقال له المثل العربي القديم: "الله يخلق من الشبه اربعين" في اليوم التالي استدعي وليد ليتم اعتقاله ومن ثم تسفيره على أول طائرة متجهة الى بيروت، يرافقه عن اليمين والشمال رجلان من المخابرات. عاد وليد الى المخيم ليعمل اجيرا في البساتين أو في الباطون او عتالا في الحسبة، حتى هذه الاعمال تلوذ في أحايين كثيرة من امام الفلسطيني فلا يعود يجدها. اما شهادة الدكتوراه فقد وضعت ليعلوها الغبار في خزانة قدمية كان أبوه قد اشتراها عند عرسه. ابراهيم خالد