قوة العمل الفلسطينية و الأقتصاد اللبناني تكامل لا تنافس

قوة العمل الفلسطينية والإقتصاد اللبناني تكامل لا تنافس

 
قوة العمل الفلسطينية والاقتصاد اللبناني: تكامل لا تنافس صقر أبو فخر لم يكن بين لبنان وفلسطين، قبل سنة 1917، أي حدود حقيقية فاصلة. ففي هذه السنة انسحبت القوات العثمانية من فلسطين التي وقعت فورا تحت السيطرة المباشرة للقوات البريطانية بقيادة الجنرال أللنبي. وفي هذه السنة أيضا صدر إعلان بلفور المشهور. ثم لم تلبث الحدود ان ظهرت بموجب اتفاق نيوكمب بوليه في سنة 1923. ومهما يكن الأمر، فقد عاش في فلسطين الكثير من العائلات اللبنانية والسورية وحتى العراقية، وهؤلاء كانت تجذبهم إليها المدن الساحلية المزدهرة أمثال يافا وحيفا وعكا، فعملوا في شتى المهن كالتجارة والحرف والنقل والصحافة، وأسهموا في الحياة السياسية والاقتصادية والعمرانية اسهاما مشهودا، وبرز من بينهم أعلام مشهورون أمثال إميل البستاني مؤسس شركة الكات ونجيب نصار مؤسس مجلة الكرمل في حيفا وعجاج نويهض مؤسس صحيفة العرب في القدس ووديع البستاني الشاعر والمترجم المعروف.
في سنة 1948 سقطت فلسطين بأيدي الصهيونية. وكان من جراء ذلك ان تدفق نحو مئة وعشرة آلاف فلسطيني الى لبنان. ومنذ تلك السنة فصاعدا بدأت مرحلة جديدة من الصراع في تاريخ المنطقة العربية. لم يبدأ الازدهار اللبناني، فعلا، إلا بعد نكبة فلسطين في سنة 1948. قبل تلك الحقبة، وحتى ثلاثنيات القرن العشرين، كان لبنان مجرد مجموعة من القرى المتناثرة في الجبل تتميز بهواء صحي ملائم للمصطافين الفلسطينيين والسوريين والعراقيين. لكن، بسقوط فلسطين سنة 1948، حمل اللاجئون معهم الى لبنان دفعة واحدة نحو 150 مليون جنيه استرليني، اي ما يعادل 15 مليار دولار بأسعار هذه الأيام. وهذا الأمر أطلق فورة اقتصادية شديدة الايجابية، فاليد العاملة الفلسطينية المدربة ساهمت في العمران وفي تطوير السهول الساحلية اللبنانية، والرأسمال النقدي أشاع حالة من الانتعاش الاستثماري الواسع. وكان لإقفال ميناء حيفا ومطار اللد شأن مهم جدا في تحويل التجارة في شرق المتوسط الى ميناء بيروت ثم في إنشاء مطار بيروت الدولي بعدما كان مطار بئر حسن مجرد محطة متواضعة لاستقبال الطائرات الصغيرة. وفي هذا السياق لمع في لبنان الكثير من الفلسطينيين الذين كان لهم شأن كبير في الازدهار اللبناني أمثال يوسف بيدس مؤسس بنك انترا وكازينو لبنان وطيران الشرق الأوسط واستديو بعلبك وحسيب الصباغ وسعيد خوري مؤسسا شركة اتحاد المقاولين 222، ورفعت النمر البنك الاتحادي العربي ثم بنك بيروت للتجارة وباسم فارس وبدر الفاهوم الشركة العربية للتأمين وزهير العلمي شركة خطيب وعلمي وكمال الشاعر دار الهندسة وريمون عودة بنك عودة، علاوة على عبد المحسن القطان وتيوفيل بوتاجي وتوفيق غرغور وادوين أبيلا ومحمود فستق ورضا ايراني وغيرهم كثيرون.
 اليد العاملة الفلسطينية والاقتصاد اللبناني كانت البنية الاقتصادية في لبنان، في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين، تقوم على الانتاج السلعي الزراعي والصناعي والحرفي. فكانت حصة هذا القطاع تقارب 50% من مجمل الناتج الوطني الشامل. لكن، في ما بعد، راح الاقتصاد اللبناني يتحول، بالتدريج، نحو الخدمات التي ازدادت حصتها في الناتج الوطني الشامل لتصل الى 68%. وكان للنكبة الفلسطينية دور مهم في هذا التحول ولا سيما مع ازدهار ميناء بيروت ومطارها الدولي والقطاعين المصرفي والعقاري، فضلا عن استئثار ميناء الزهراني وميناء طرابلس بالنفط السعودي والعراقي اللذين توقف تصديرهما الى ميناء حيفا. في أي حال، فقد توزع معظم العمال الفلسطينيين الأوائل على الزراعة والبناء، واتجهت الأقلية منهم الى الصناعة والخدمات ووظائف الأونروا. واشتهرت، في البدايات الأولى بعد النكبة، بعض العائلات الفلسطينية التي كان لها شأن بارز في تطوير بساتين الجنوب مثل آل عطايا. كما كان لليد العاملة الفلسطينية حضور في معامل جبر وغندور وعسيلي واليمني... الخ. وقد استفادت القطاعات الانتاجية اللبنانية كثيرا من جهد العمال الفلسطينيين الذين كانوا يتقاضون أجورا أقل ويعملون ساعات أكثر، فكان يوم العمل يستغرق 12 ساعة. واستمرت هذه الحال حتى سنة 1955 حينما انخفض يوم العمل للعامل الفلسطيني، نظريا على الأقل، الى 8 ساعات، ثم أصبح 7 ساعات ابتداء من سنة 1965 فصاعدا. لم تكن اليد العاملة الفلسطينية منافسة لليد العاملة اللبنانية بتاتا. فهي، في نهاية المطاف، محدودة العدد وضئيلة الحجم. وحتى ستينيات القرن العشرين كانت أعداد العمال الفلسطينيين في لبنان لا تزيد على الثلاثين ألف عامل فقط. فالفلسطينيون اللاجئون انقسموا، اجتماعيا، إلى ثلاث فئات هي: الفئة العليا: وهم رجال الأعمال وأصحاب الرساميل وذوو الخبرة في ميادين المال والتجارة. وهؤلاء شكلوا نحو 5% من اللاجئين، ومعظمهم اكتسب الجنسية اللبنانية. وتولت شركات الكات واتحاد المقاولين والبنك العربي تشغيل بعض هذه الكفاءات الفلسطينية. الفئة الوسطى: وهم حملة الشهادات الجامعية والمهنية، وهؤلاء عملوا في الادارة والتدريس والخدمات، وكانوا يشتغلون بأجور أقل من أجور أمثالهم اللبنانيين وبلا أي ضمانات. وتميزت هذه الفئة (50% من طاقة العمل) بهجرة أبنائها الى دول الخليج العربي، وهؤلاء كانوا يعيدون تحويل مدخراتهم الى المصارف اللبنانية. وقد أسهمت التحويلات المالية لهؤلاء في تنشيط الطلب على السلع وعلى العقارات معا، وفي تكوين احتياطي مهم من العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. العمال: وهؤلاء هم سكان المخيمات بالدرجة الأولى الذين ساهموا في تحسين القطاع الزراعي، وفي إمداد القطاع الصناعي في الدكوانة وتل الزعتر والمكلس والشويفات باليد العاملة، وفي تطوير قطاع البناء. اذا كانت البطالة ظاهرة عامة في الوسط الفلسطيني في لبنان إلا ان انتقال منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الى لبنان منذ سنة 1969 فصاعدا ساعد في امتصاص جزء من العمالة الفلسطينية. وقد كان للأونروا، بالتأكيد، دور معروف في تشغيل أعداد وافرة من الفلسطينيين في المدارس والمعاهد والمؤسسات التابعة لها. وبهذا المعنى يمكن القول إن اليد العاملة الفلسطينية لم تشكل في اي يوم من الأيام منافسا جديا لليد العاملة اللبنانية، بل ان مساهمة الفلسطينيين في تطوير بعض القطاعات الاقتصادية اللبنانية أفسح في المجال أمام اليد العاملة اللبنانية لتستفيد من اتساع الأسواق الذي أُتيح لها جراء هذه المساهمة.
 قوة العمل الفلسطينية في لبنان في لبنان اليوم أكثر قليلا من 400 ألف لاجئ مسجل في قيود الأونروا او في مديرية شؤون اللاجئين او الأمن العام. لكن المقيمين فعليا على الأراضي اللبنانية يتراوحون بين 200 الف و230 ألف فلسطيني فقط. واستنادا الى ذلك فإن قوة العمل الفلسطينية في لبنان حاليا لا تتجاوز الخمسين ألف عامل يتوزعون على البناء والزراعة ومحطات الوقود والأفران والصيد البحري وحراسة المباني والخدمات. وتتجه عمالة النساء، على ضآلتها، الى معامل الخياطة وبعض المعامل القريبة من المخيمات والبساتين، فضلا عن الجمعيات الأهلية العاملة في الوسط الفلسطيني ومؤسساتها مثل رياض الأطفال وبعض المشاغل الحرفية. إن هذه القطاعات غير منافسة لليد العاملة اللبنانية التي تفضل الالتحاق بوظائف الدولة او وظائف القطاع الخاص بالدرجة الأولى. ولا بد من الاشارة الى ان جانبا من قوة العمل الفلسطينية يندرج في إطار العمالة الموسمية ما يرفع نسب البطالة الى معدلات عالية ربما تصل الى نحو 40% من الطاقة الكلية لقوة العمل الفلسطينية. لنلاحظ ان هناك نحو 350 طبيبا فلسطينيا في لبنان وقرابة 300 مهندس وحوالى 40 محاميا، وأعدادا غير محددة من الصيادلة.
وهؤلاء يعملون في مهن لا تتلاءم وخبراتهم. فالمهندس إذا حظي بعمل لدى إحدى شركات المقاولات فهو يعمل فورمان على سبيل المثال، وإذا اشتغل مهندسا بالفعل فإن توصيفه الوظيفي Job Description يبقى فورمان. وثمة بعض الأطباء حاولوا افتتاح عيادات خاصة في داخل المخيمات، فإذا بالسلطات القضائية تصدر مذكرات جلب بحق هؤلاء بتهمة ممارسة المهنة من غير ترخيص رسمي. أما الترخيص الرسمي فهو ضرب من المحال، لأن المهن الحرة في لبنان تشترط على من يرغب في مزاولتها ان يكون عضوا في النقابة الخاصة بها. وهذه النقابات لا تسمح بعضوية غير اللبناني إلا بشروط خاصة وصعبة وبتكلفة ربما تصل الى 50 ألف دولار لمهنة الطب. لذلك يتحول الطبيب الفلسطيني، خصوصا المتخرج حديثا، الى العمل في أي مهنة اخرى إن لم يهاجر او ان لم يجد وظيفة له في إحدى عيادات الأونروا او الهلال الأحمر الفلسطيني وهي عيادات محدودة القدرة على الاستيعاب.
 إن قانون تنظيم عمل الأجانب (الرقم 17561 العام 1964) يعتبر الفلسطينيين أجانب مثل غيرهم من غير اللبنانيين، ويشترط مبدأ المعاملة بالمثل لمنح الفلسطينيين الحق بالعمل في بعض المهن الحرة. وهذا الشرط مستحيل التنفيذ لأن الفلسطينيين لا يمتلكون دولة كي يجري عليها مثل هذا القياس. إن هذه الأوضاع المتفاقمة أدت لارتفاع وتيرة الهجرة في صفوف الفلسطينيين. لكن هذه الهجرة تختلف اختلافا بينا عن هجرة الفلسطينيين الأوائل الى دول الخليج العربي في أواخر الخمسينيات. فتلك الهجرة كانت ترفد لبنان بتحويلات مالية متدفقة، وهذه التحويلات طالما لعبت دورا مهما في اتساع الانفاق وتنشيط الطلب في بعض القطاعات. غير ان الهجرة الجديدة والمتجددة، التي كانت بدأت في معمعان الحرب الأهلية اللبنانية لا تلعب هذا الدور على الاطلاق. فإذا كانت الهجرة الأولى موقتة ويعود الفلسطيني الى لبنان للاقامة في ربوعه بعد ان يكون اشترى منزلا او جمع ثروة محدودة تقيه العوز ومرارة اللجوء، فإن الهجرة الثانية هي هجرة دائمة على الأرجح، فهي هجرة تتجه الى الدول الاوروبية وكندا والولايات المتحدة، وهي بلدان ماصة للأفراد وللأسر. لقد استفاد لبنان كثيرا من اليد العاملة الفلسطينية أكان من اليد العاملة التي استقرت في أرجائه او التي هاجرت منه.
لنلاحظ كيف ان قانون منع تملك الفلسطيني في لبنان الصادر في 21/3/2001 أثر بشكل سلبي واضح على الحركة العقارية في بعض المناطق اللبنانية ولا سيما في مدينة صيدا على سبيل المثال، بينما انتعشت الحركة العقارية في صيدا وساحل الشوف وبعض أحياء العاصمة بيروت والبقاع طوال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين جراء تحويلات العاملين الفلسطينيين في دول الخليج العربي. مشكلات بلا حلول يختزن المجتمع الفلسطيني في لبنان عددا من المشكلات المتمادية التي تبدو بلا حلول قريبة. واليد العاملة الفلسطينية التي وقع عليها العبء الأكبر جراء التهجير القسري سنة 1948، وجراء العيش البائس في أماكن اللجوء، وجراء الحروب المتعاقبة التي تعرضت لها المخيمات، أُضيفت اليها مشكلات جديدة مثل مشكلة المهجرين من المخيمات المدمرة (تل الزعتر، جسر الباشا، النبطية)، ومن الاحياء التي طردوا منها إبان الحرب الأهلية اللبنانية. وفوق ذلك ثمة مشكلة تبدو كأنها بلا حل هي مشكلة فاقدي الأوراق الثبوتية عددهم يربو على 3 آلاف شخص.
 
إن بعض الخطوات الضرورية ستكون شديدة التأثير الايجابي في المجتمع الفلسطيني لو أقدمت عليها السلطات اللبنانية لتخفيف العبء عن الفلسطينيين مثل: - إلغاء قانون منع تملك الفلسطينيين. - إلغاء إجازة العمل للفلسطيني المقيم في لبنان. - إلغاء حظر العمل في المهن التي لم يتضمنها قرار وزير العمل الصادر في 27/6/2005 الذي يبيح للفلسطيني العمل في بعض المهن البسيطة. استفادة العامل الفلسطيني من تقديمات الضمان الاجتماعي والضمان الصحي ما دام رب العمل يدفع عنه الرسوم القانونية والاشتراكات المنصوصة في القوانين. إن قوة العمل الفلسطينية، بمهارات أبنائها وخبراتهم ورساميلهم، أسهمت بشدة في العمران اللبناني، وكانت طوال حقبة الازدهار عاملا من عوامل التقدم والتطوير والبناء. ومن حقها ان تُكافَأ على دورها المشهود لا أن يتم تهميشها والتضييق عليها، ولا سيما ان معظم الخبراء يكادون يجمعون على ان العمالة الفلسطينية في لبنان لا تشكل اي منافسة للعمالة اللبنانية، بل إنها عمالة مستقرة تنفق ما تجني في البلد نفسه.
ش السفير 20/1/2006